على ضفاف نهر الذكرى: الذكرى الثالثة لرحيل د. صادق العمران
د. حجي إبراهيم الزويد
قبل سنوات غابت شمس عن سماء الأحساء، فلف الكون ظلام حزن دامس.
لم تتشح الأحساء وحدها ولا المنطقة وحدها، بل عم الحزن مساحة واسعة من وطننا الغالي.
في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة عام 1438، رحل علم من أعلام الإنسانية العظام، فهز فقده الأنام وكل مكان كان له فيه حضور وقتا ما، وكل قلب لامس حنانه ودفء روحه الإنساني، بل هز تلك الأماكن وتلك القلوب التي لم تلتق به، وإنما وصل إليها صدى سيرته المشرقة، وفي رحيله كان الجميع يشعرون بداخلهم أنهم فقدوا كنوزاً ثمينة.
في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة الحرام، وعند الساعة التاسعة والنصف ليلاً، وقوافل الحجيج تغادر أرض مكة المكرمة، شاكرين الله على إتمام مناسكهم، والنَّاس وهم يعيشون فرحة العيد، سلب فرحتهم أفول نجم من الأنجم المشرقة بالعطاء، و غياب نور من الأنوار المشرقة في صفحة أفق الإنسانية، ونضوب ينبوع من الينابيع المتدفقة بمعاني الخير والإنسانية، ففي مثل هذه الليلة غابت عن الوجود المادي روح علم من أعلام الجمال الكوني، ومعلم من معالم الوفاء الإنساني، وأستاذ كبير من أساتذة العلم، صرف حياته ووقته معطياً ومضحياً.
إنه الرجل الحكيم، الذي كان عقله ميزان أعماله.
رحل إلى عالم الخلود الدكتور القدير ذو القلب الكبير، صادق عبد الله العمران بعد رحلة حياة مشرقة ملأى بأجمل ما يمكن أن يعطى.
د. صادق العمران الذي كان يؤلمه رؤية مشهد لإنسان يشكو جوعاً أو يبيت مغموماً أو محزوناً، وكانت لا ترتاح روحه إلا أن يروّح عن تلك الأنفس، ويبعث فيها الابتسامة والبهجة، حتى وهو في أشد حالات الألم وأعظمها.
د. صادق العمران الذي كان لا يعرف سعادة في الحياة غير إدخال السعادة في أنفس الآخرين.
د. صادق الذي كان لا يفهم من المال إلا أنه وسيلة من وسائل نشر العلم، وإدخال السعادة على الآخرين.
كان يشعر بالراحة النفسية عند قضاء حوائج الآخرين، حتى وهو في أشد الظروف الصحية عناءً ونصباً.
لاقى في حياته كثيراً من الشدائد والمحن، وكانت من القوة بحيث أنها تكسر النفس، إلا أنه لم تنكسر سورته، وظل صامداً، يلقى الصعاب بابتسامة مشرقة بالأمل.
لقد جعل محبوه وداعه لوحةً من المشاعر الجياشة، استمات محبوه لرسمها مسجلين في زمن الإنسانية أضخم رصيد للوفاء.
من مظاهر الحب الكبير والوفاء لهذا الراحل الكبير:
– عم الدعاء له بالشفاء – أثناء مرضه- كل ملتقيات التواصل الاجتماعي في مختلف المناطق.
-وصلتني رسائل تشيد بالفقيد من مختلف أنحاء الممكة، من الرياض ونجران ومكة والمدينة وسائر مناطق بلدنا الغالي وبعض الرسائل كانت من خارج الوطن.
– اجتياح الحزن مناطق متعددة فور إعلان انتقاله للرفيق الأعلى، وكانت رسائل متشحة بلباس الحزن، وفي التوتير على سبيل المثال، كانت الرسائل حول خبر وفاته الثانية عالمياً.
– الحضور الضخم والتشييع المهيب الذي حظي به، بالرغم من مزاحمة الوقت، حيث كان التشييع مبكراً، والأجواء الحارة، إلا أن الحضور كان كثيفاً. ولم يكن مهيباً من ناحية العدد فحسب، بل من ناحية الكيف، فأينما نظرت رأيت الحزن يغمر وجه الحضور، والدموع تتدفق تلقائياً.
– الحضور الكثيف للمعزين، حيث ظل الحضور قوياً حتى آخر يوم في مجلس العزاء.
د صادق و نادي العدالة:
علاقة الدكتور بالنادي تمتد لأكثر من 15 سنة، تقلد خلالها عدة منصب في إدارة النادي، حيث كان عضواً إدارياً في فترات سابقة، وتولى بعدها منصب نائب رئيس النادي.
للدكتور صادق أياد بيضاء في مسيرة النادي المباركة فلقد كان فاعلاً
وقائداً عظيماً ومفكراً
ومبدعاً، وبفضل أفكاره النيرة والتجديدية ازدهرت ألعاب النادي المختلفة بفضل رعايته الكريمة. وقد كان يعد لخطة تطويرية مستقبلية للنادي، لكن القدر حال دون ذلك.
اهتمامه بالعلم والمطالعة:
هو الإنسان الذي وهو قبل وضعه على التنفس الصناعي يبدي إعجابة بمقالة علمية أرسلتها في ملتقى كان فيه، أي شخص في هذا الوضع لديه القدرة على الاستمتاع بلذة المطالعة في ذلك الظرف الصحي الصعب.
عطاء غير محدود:
1- يتم تنويم طفلة في العناية المركزة بفشل كلوي، وهو في إجازة ومع الصوم والحر يأتي كل يوم للإشراف على علاجها حتى تماثلت للشفاء.
2- يتصل عليه أحد الآباء بعد الساعة الثانية عشر ليلاً فلم يتضجر، وطلب منه الذهاب للاسعاف. واتصل د. صادق بالاسعاف والقسم ليضع لها الخطة العلاجية، وتابع بعدئذ حالتها بالمستشفى.
3- أخبرتني إحدى المهات أنها أخفت عن ابنها خبر رحيل الدكتور صادق، لأن الطفل ذا التسع السنوات كان شديد الحب والتعلق بالفقيد إلى حد يصعب وصفه.
د صادق والحس الاجتماعي:
من يكبره في العمر ومن يصغره يشعر أنه بحاجة إليه، فهو وردة تبعث العطر حتى من لم يعاملها بلطف.
كان يرعى أيتام كثر، وأسراً زرع في أرواحهم السعادة، حيث كان يتابع الأسر المحتاجة، ويدعمها مباشرة أو يوفر لها من يدعمها.
إنه ذلك الإنسان الذي يتصل به شخص وهو في العناية المركزة وفي وضع صحي حرج وفي ساعة متأخرة، يطلب منه المساعدة لزوجته الحامل بأحد المستشفيات، فيتواصل الدكتور صادق مع أحد الزملاء طالباً منه التدخل لحل مشكلة هذه المرأة، وتم حلها.
كلمة: لا استطيع، ليس بمقدروي، لا وجود لها في عالم إنسانيته.
عبر عنه أحدهم بحائط المبكى، أي الملاذ الذي يلتجىء إليه كل الناس يبثونه همومهم وما يشغل بالهم، وهو لا يكتف بالسماع، بل يسعى جاهداً لإيجاد حل لما يشغل بالهم
الوفاء لأصدقائه ولمن عاشره:
كان وفياً مع الجميع، وكان وفيا مع من رحلوا من أصقائه يرعى أسرهم وأبناءهم.
اهتمامه بالتعليم والتطوير:
كان يشترك بمجلات علمية في اختصاص طب الأطفال، ويقدم تلك المجلات مجاناً لزملائه وطلابه، حباً منه لنشر العلم والمعرفة.
كان الفقيد دائرة معارف متنقلة، وقد عمل على تحسين مستوى العمل الإكلينيكي والعلمي في قسم الأطفال بشكل خاص خلال حضوره ومشاركاته وإثراءاته العلمية.
كذلك أحدث تحسيناً
وتطويراً في مستوى الخدمات الصحية بمستشفى الولادة والأطفال عندما كان مديراً للخدمات الطبية وغيرها من المناصب التي أسندت إليه.
الثبات والصبر:
يقول د عبد الله الوباري رافقتُه في أول موعد له بعد اكتشاف المرض فأذهلني تماسكه وطمأنينة قلبه وثبات جنانه، وبدل أن نحثه على الصبر وجدناه يطمئننا ويمسح على قلوبنا ولسان حاله يقول لاتقلقوا ولاتحزنوا.
لم أر مثله مقبلا على الموت باسماً مطمئناً واثقاً. صادق هذا علّم من حوله كيف يعيش وكيف يموت. عاش سعيداً ومضى شهيداً وخلد فقيداً.
كلمة وفاء أحببت تسجيلها في ذكرى رحيله الثالثة.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الغرف العالية في جنان الخلد.