أقلام

قراءة في ديوان مـائــدة رمــضـان

إبراهيم سلمان بوخمسين

أبا سمير وحسبك الشعر مفخرة … أن ينحني لك حتى يلثم القدما

كما اصطفاك إلهُ الفن- حين برى … ألطافه- منهلا بالسحر مـُلتطما

نحن اصطفيناك سلطان لمملكة الـ… إبداع تحكمُ فيها اللون والنغما

فإنْ وهبناك عرشـاً في ضمائرنا… فبعض ما يهبُ التاريخ للعُظما

ناجي بن داود الحرز

” ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وارزقنا ”
نزلت علينا مائدة رمضان، فكانت حقا لنا عيداً وفرحة، وهذه المائدة هي ديوان شعر للأديب الشاعر الحاج محمد بن حسين الرمضان بعنوان ” مائدة رمضان”، أهداه إلي الحبيب، ابن أخيه ” ابو كميل ” محمد بن الحاج موسى الرمضان نيابة عن عمه الشاعر. وحقا إنها مائدة ليس فقط لرمضان إن كان هذا الاسم يشير إلى زمن ووقت، أو كان يشير الى اسم عائلة. بل هي مائدة لكل الأوقات ولكل الأدباء والشعراء والمثقفين.
إن أول ما يلفت في الكتاب هو عنوانه وحسن اختياره له ولقد وفق الشاعر أيما توفيق في اختيار عنوان ديوانه هذا، وقديماً قال الشاعر العربي:
ضمائر قلب المرء تبدو بوجهه *** ويخبر عـنوان الكتاب بما فـيه
وقال آخر:
كما لاح عـنـوان مـبــروزة *** يــلــوح مـع الـكـف عـنـوانـها
فكلمة مائدة تعني تنوع محتوياتها، وأنت سترى حين قراءتك وتصفحك لمحتويات هذا الديوان وما أتى به شاعرنا من فنون الشعر، كالشعر العمودي والشعر المخمس والرجـز، ومن أغـراضه كالـمدح والرثاء والغزل والوصف والإخوانـيات، وبحوره كالطويل والبسيط والخفيف والكامل والمتقارب وغيرها من بحور الشعر.
أضف إلى ذلك ما ضمه الكتاب من توثـيق للمكان والزمان لمخـتلف الأمكنة والمناسبات والشخصيات والأعلام والأصدقاء ورفقاء الدرب وأبناء العمومة…فلقد جاء الكتاب في حلة وأسلوب جديدين لم نعهده من قبل.

وشاعرنا ” أبو سمير ” غني عن التعريف فهو من أحفاد الشهيد آية الله الشيخ علي الرمضان ” طائر الأحساء المهاجر ” وهو من ذلك البيت الرفيع بيت العلم والأدب والتاريخ. وجاء في مقدمة الكتاب الرائعة والوافية والضافية للأديب الشاعر الراحل حمد بن محمد الرمضان ” وإذا ذكر ” أبو سمير ” استيقظ العقل في الأذهان علماء آل الرمضان، وشعراؤهم وخطباؤهم ذكرى حافلة بالعطاء والإبداع فهو اليوم روح هذه العشيرة ونجمها المتألق في سماء الفكر والعرفان، وشاعرنا الفذ يمتاز بالنفس الصافية والشاعرية الخلابة والذوق الرفيع كما يمتاز بسرعة الخاطر وحضور البديهة. وعرف بشغفه ووله بكتب الأدب والتاريخ وصقلته التجارب فأصبح يمتاز برقة أسلوبه وسلامة معانيه وجزالة لفظه، وإن الشعر عنده أرق وأصدق تعبيراً وأعمق أثراً فكان نفحه عبقرياً، وقد أكب على مطالعة الأدب والشعر قديمه وحديثه، وثابر على الاطلاع على أساليب الشعر واختلاف بحوره وأقسامه وصيغه واهتم بما يصدر من الكتب والمجلات والدوريات الحديثة.
كما ترجم له أخوه الحاج أبو حسن المؤرخ جواد الرمضان في كتاب ” قلائد الجمان في تراجم أعلام آل الرمضان ” وفي كتابه ” قلائد الدرر”. كما كتب عنه كل من الأديب علي بن محمد المهدي في مجلة التوافق، والأديب البحاثة الشيخ موسى بن عبدالهادي بوخمسين في كتابه ” في محراب الشيخ محمد بن الشيخ حسين آل ابو خمسين”، وكتب عنه الدكتور الشاعر سعود الحليبي في رسالة الماجستير” الشعر في الأحساء في القرن الرابع عشر الهجري”. وكتب عنه الأديب والبحاثة الشيخ محمد بن علي الحرز في كتابه ” الشاعر علي الرمضان: ” طائر الأحساء المهاجر”. ولو أردنا أن نورد وأن نفصل مشواره الأدبي لطال بنا المقام. بقي أن نشير إلى أن شاعرنا بجانب براعته في الشعر والأدب فله اليد الطولى في النحو والصرف والبلاغة كما يعد حجة ومرجعا وبحاثة في تاريخ المنطقة السياسي والعلمي والأدبي وتراثها، وما كتابه ” أمثال وأقوال من عامية الأحساء ” الذي جمع فيه 788 مثلاً مدعماً بفنون الشعر وغزارة المعلومات طوال أربعة عقود من الزمن إلا دليلاً على كلامنا هذا، وهو لا يقل شأناً من ناحية التوثيق عن ديوانه هذا.
كانت لي شخصيا أربع محطات مع هذا الشاعر الكبير الذي تجمعني به صلة النسب قبل صلة الأدب، فهم أبناء خولة لنا. وهذه المحطات دليل على سعة صدر شاعرنا الكبير ورعايته وأبوته للأدب والمثقفين والكتاب:
المحطة الأولى: في عام 1409 هـ حيث كنا نعد لحفل نجاح (٢) لعائلة البوخمسين طلبت من سماحة العلامة الشيخ باقر كتابة بعض الأبيات لأبنائه الطلبة. فأخرج الشيخ قصاصة من الورق وكتب ثلاثة أبيات على عجالة وطلب مني أن أذهب إلى أبي سمير للتحقق من وزنها. ذهبت إلى أبي سمير وكان وقتها يقطن بحي الفاضلية وعرفته بنفسي وأعطيته القصاصة وطلبت منه التأكد من وزنها فالتـفـت إلي وقال: يا بني أنت شاعر، قلت له لا، فهذا شعر العم الشيخ باقر، فقال: إن كانت له فهو أبو الجميع فلا يحتاج إلى وزن، إلا أنه أجرى تعديلاً طفيفاً على بعض أبياتها. والأبيات هي:
يا شـباباً بلغـوا أوج الـعُـلا *** بالمعالي الغـرِّ نـالوا الـشرفا
اســعـد الله بــكــمْ آبــاءَكــم *** وإذا غـابوا، فــكـونـوا الخـلـفا
حــقـق الله لـكـم آمـالكـم *** و وقــاكم في الحـياة الكلفا.

المحطة الثانية: في افتتاح الحسينية المحمدية حسينية آل أبي خمسين بالهفوف. في 19 رجب 1412 هـ ذهبنا إلى شاعرنا الكبير فلبى الدعوة بقصيدة رائعة وأرفق بها سيرة من تاريخ هذه الصرح الكبير، ونسب العائلة، ولا تزال هذه الأوراق في حوزتي بخط يده….و هذه القصيدة موجودة في ديوانه هذا تحت عنوان ” نشيد العلا ” ص 24، وكنت قد أوردت القصيدة بكاملها في كشكول الهجري ” للعلامة الشيخ باقر بوخمسين” عندما كنت أحققه، ومما جاء في هذه القصيدة:
لآل الرسول محضنا الـولا *** وفزنا بحـبهمو في الـملا
ولو لا علي عـلـيه الــسلام *** لـكــان حـسـينـهــم الأولا
وفيها يقول:
فــليـسـت مـآتـم ولــكــنها *** مدارس منها الهدى يجتلا
فشيدوا مآتم سبط الرسول *** تكونوا بها الخلص الكملا

المحطة الثالثة: عندما كنت أحقق كشكول الهجري لسماحة العلامة الشيخ باقر بوخمسين، ذهبت إلى شاعرنا الكبير بمدينة الدمام وأعطيته نسخة من مسودة الكتاب وهي قرابة الـ 500 صفحة بعد انتهائي منها، وكان ذلك قرابة 1417هـ، وطلبت منه أن يدقق ويراجع ما جاء فيها من قصائد وأبيات شعر فتلقاني بكل رحابة صدر ولم يتوانى عن فعل ذلك بالرغم من كثافة المادة وأشغاله الخاصة…فما كان منا أن نوهنا بشكره في كشكولنا هذا، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أبوته وتشجيعه للأدب والمثقفين كما أشرنا سابقا.

المحطة الرابعة: عندما انتهت الكاتبة وفاء علي بوخمسين من روايتها بين واحتين، أخذتها وذهبت بها الى المؤرخ أبي حسن جواد الرمضان عليه الرحمة وطلبت منه أن يقدم لها، فما كان منه الا أن أشار الي بأن نأخذها الى أخيه الشاعر أبي سمير، وقال بأنه أقدر منه في سبك العبارات واللغة، وهذا ما حدث وقد كتب لها مقدمة أكثر من رائعة، وكعادته ودليل على سرعة بديهته استوحى من هذه الرواية ومن عنوانها فأطلق لقب ” فتاة الواحتين ” على الكاتبة وفاء علي بوخمسين.

وعوداً على بدء دعونا نتجول في هذه الحديقة الغناء، ونغترف من هذه المائدة مما لذ وطاب لنرى موهبته الشعرية التي قلما تجدها عند غيره. ومنها ما تدل على التصوير الفني الرائع الذي صوره كما في قصائده الفاطميات وهو من شعر الخماسيات:

يا بـضعة المخـتار طاب ثـراك *** روحي فــداك وما أقـل فـداك

ما ذا عساي أقـول في مـعــناك *** أولاك ربــك جـــل ما أولاك
من نعـمة لا تـنـبغي لـسـواك

نـلـت المكـانة والـمحل الأقـدسا *** وعرفت عن حق بسيدة الـنسا

ما ذا يقول المادحون وما عسى *** والله قال لسائل: من في الكسا

هـم: فـاطم, وبـذا أبان عـلاك

وعندما تقف على مرثياته فإنك ترى اللوعة والتفجع والتحسر، وكأنك أنت صاحب المصيبة، فهو يشركك في الألم والمصاب، قال في رثاء السيد علي آل علي الموسوي:
أحسين مهلا فالـشريـعة أصبحت *** ثـكـلى يـرج الخافـقـين بـكـاها

أحــسين لو أبـقى فراقــك مهـجة *** قـلت الـفـراق أذابـها وشـجـاها

بالله يا مـفــتي الــبلاد يـد الـردى *** لما طوتـك من الذي أفـتاها؟!!

من للـيتـامى يا مـسكـن روعـهــا *** من للأرامل يا مغيث نداها؟!!

ومن شعره في المدح وقد أجاد وأبدع، قال مقرظاً كتاب مطلع الـبدرين في تراجم علماء وأدباء الأحساء والقطيف والبحرين لأخيه المؤرخ أبي حسن جواد الرمضان:
أيا مـطـلع الـبــدرين فـيك مـطالــع *** ولكنه ظلم على اسمك واقع

ببدرين يسمى من على كل صفحة *** تـطــلع فـيه للــبدور مـطالع
” ابا حسن ” هـذي جـهــودك بيننا *** لـها ثـمر للــقطف دان ويانع
وقال مقرظاً دواوين الشاعر المبدع ناجي بن داوود الحرز، وستجد في هذا التقريض حفظاً لتراث الأحساء فضلاً عن مدح شعراءها:
جـدد الـشعر يا ابـن داوود ناجي *** وتـــــزيــن مــن آل حـــرز بــتــاج
فــغدا في الـقريـض نابغة العصـ *** ــر عـلى ذكـــره تـــنـــاط الأراجـي

ويقول ذاكراً دواوينه:
و” نـشـيد ” إذا شـدا و” نـشـيـج” *** في المراثي و” العطر ” حين يناجي
فتمتع بـ ” ضاحـكات ” الـقـوافي *** بــبلــــيغ في الـــــنـــهج والــمنــهاج

وتناول ” عـنقـوده ” واعتـصـره *** وارتــشــف خـــير نــشــوة وابتهاج

فـلــه الشـكــر دائــما ولـــنا مــنـ *** ـــه نــسيــج يـــثــني عـلى الــنسـاج

وقال في شعر الغزل وقد رأى مليحة في سرب من المليحات، حين رمته بفاترة من مقلتيها التي تصمي القلوب، وفتور العين في الشعر العربي يعد من الجمال ” قال صاحب اليتيمة: ” بفتور عين ما بها رمد ** وبها تداوى الأعين الرمد ” ولذلك قال شاعرنا:

ألا ســائلا تــلـك الــملـيحة عن قلبي *** فقد سرقته وهي تخطر في السرب

رمتني فلم تخطىء على البعد مقلتي *** بفاترة تصمي الـقلوب كما تصبي

رمــيـت مــحيــاها بــنـظرة مـعجب *** وما كــنـت أدري أنـها بـذرة الحب

أرى الــحـب لـغـــزاً لا سـبـيل لحله *** وها أنا من لغز الصبابة في الصب

وله في القبلة الخرساء أبيات ساحرة، وهذا هو حال العشاق، فما أجمل شعور الحب وما أصعب الخيبة فيه، كيف لك أن تسقط من سماء سابعة بعد أن عانقت السحاب لترتطم بالأرض:

وما نــلـت مـنها لا وقـدسـية الـهوى *** سوى قـبلة خرساء على غـير موعد

تقـاضـيـتها في هــدأة الــليل خـلسة *** وقـلـبي يهــفو والـرقــيب بــمـرصــد

فــقــلت لـها هــمساً : عديني بزورة *** فــقـالـت بوجــد: ليـت ذلك في يـدي

فـقــلت لـها : معــذورة فــتـنهـــدت *** فــقــلـت : رويــداً بـعــض الــتـنــهـد

فقالت : وداعاً، فقلت: حانـت مـنيتي *** فــقــالت: تـجــلـد، قلت: أنت تجلدي

فــمـَــدًتْ لـتوديـعي يــداً في تــــردد *** فَــمُـدتْ إلــيـها غــيـر طــيعـة يـدي

فــفـاضـت مآقـيها وفاضـت مدامعي *** عــلى الـخـد سـحاً كالـجـمان الـمبدد

ولــما مـسحـت الـدمـع بالـكم نـاظـراً *** إذا أنـا في ذاك الــمــكان بـمـفـردي

ومن باب رمضانياته قطفنا عنقودين، وإلا ما أكثر العناقيد الحلوة، جاء في أبيات” الهوى آفة ” وكان قد اقترح عليه الشيخ أحمد بن حسن الوايل رحمه الله أن ينظم أبياتا على اللهجتين: لهجة أهل البحرين ولهجة أهل الأحساء، فأجابه بلهجة نساء أهل الأحساء:

صــبــيـة أم شــــرك لــلــبلا *** أوقــعـني فــيه الــهــوى والشباب

مرت كـما مـر غـزال الحمى *** والحسن لا يخفيه ضافي الحجاب

الى أن قال:
ومحل الشاهد هنا كلمة مناب:
جـاذبــتها الـثـوب هــياماً بها *** والشوق إن برح داع مجاب

فاحـمـر خــداها لـفرط الـحيا *** وهزت الصدر وقالت: مناب

أما النخيل والفسائل فهي محبوبة الشعراء الأحسائيين فلا تكاد ترى شاعراً أحسائياً يخلو ديوانه من وصفها وحبها والاستئناس بها سواء على القرب أوالبعد…وشاعرنا ليس بدعاً من الشعراء،فها هو في ديار الغربة يشتم عبق أرض الأحساء ونخلتها وفسيلتها، عندما حمل له عمه ” تمراً حين زيارته له بسوريا، فأكل منه وزرع نواة منها فأنتجت له فسيلة فما كان منه إلا أن جادت قريحته بهذه الأبيات:

فسيلتي هذي التي من صورتي قريــــبه
نـسيــبها أنا… وما أحــسـنها نــســيــبة!!

كانـت نـواة من تـمـور بـلـدتي الـحبـيبة
زرعــــتـهـا بـراحــتـي فهي لها ربـيبة

وأخيراً وليس آخراً ما أجمل هذه الأبيات التي يدعو فيها إلى الوحدة، ويبن ركائزها لأن الوحدة رمز القوة، وهو من شعر الحكمة:
ركائـــــز الوحــــدة دالاتـــنــا *** ” الـدم” و” الـدولة” و ” الـدار”

والرابع ” الدين ” اعتصمنا به *** بالـــعــدل والإحــــســـان أمـار

فإن صــدقــنــاها فـلا فــرقـــة *** والــكــذب فــيــه الـعار والـنار

هذه المائدة اللذيذة العامرة بالكثير من القصائد الجميلة والمفيدة لا نستطيع الإفادة منها في تقرير قصير، وهذه الطبعة الثانية جاءت في حلة رائعة وإخراج جميل وورق مصقول برعاية المركز الأحسائي للدراسات التراثية والتاريخية تحت إشراف ونفقة سماحة العلامة السيد عبدالله الموسوي.

هذه دراسة كنت قد عملتها قبل عدة أشهر، واليوم فجعنا برحيل شاعر مخضرم كبير من شعراء منطقتنا المعطاءة عاصر مراحل الشعر بكل تطوراته وواكبها وأعطى الكثير لأمته وللمكتبة العربية.
وبالأمس يوم الأثنين 20 من ذي الحجة 1441هـ تلقينا خبر رحيله عنا فليهنأ في دار المقامة خالداً طيب الذكر، وحديثاً حسناً لمن روى ولمن وعى ومصداقاً لقول ابن دريد:

وَإِنَّمـا المَـرءُ حَـديـثٌ بَـعـدَهُ … فَكُن حَديثـاً حَسَنـاً لِمَـن وَعـى

أنا لا أنسى جميلك علي وعلى زوجتي ” فتاة الواحتين ” وعلى المجتمع الأدبي قاطبة،
فرحمك الله يا أبا سمير يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى