لقاءات صحفية

الدمام.. محمد النمر خمس وثلاثون عاماً بين ردهات المطبخ الحسيني

رباب حسين النمر: الدمام

على صدى صوت النعي الأخير يبدأ كوادر اللجنة الغذائية بتحضير مائدة أبي عبدالله الحسين عليه السلام، فيفرشون (السفر) على الأرض بشكل منتظم على مد البصر، ويرتبون فوقها الماء وحبّات الفاكهة والملاعق، وأطباق الأرز (المُقصدرة). ويحرص (المستمعون) أشد الحرص على أن يكون لهم نصيب من
هذه الضيافة الموسمية الاستثنائية المحاطة بالبركة، وفيها شفاء للناس، أو حمل بعضها إلى بيوتهم للأطفال والمرضى وكبار السن.

(ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
أناس نذورا أنفسهم لعادة الإطعام التي هي شعيرة رئيسة من شعائر الطقوس الحسينية المميزة، ويواصلون الليل بالنهار في سبيل تطويرها وإنجازها يومياً بشكل يليق بصاحب المأتم سلام الله عليه.
ومنهم (الطباخ الحسيني) الذي يشمّر عن ساعدية قبل دخول الموسم ولا يعيد أكمامه إلى وضعها السابق إلا ليلة الرابع عشر من المحرم.
ونسعد خلال الأسطر القليلة القادمة بتجاذب أطراف الحديث مع (أبا الزهراء) محمد أحمد النمر أحد طباخي مأتم النمر وقافلة الهدى في حديث شائق حول مهمة الطبخ الحسيني وأجواء الاستعدادات والتحضيرات وما يتصل بها من عطاء روحي وتوجهات لنيل الثواب.

وخير ما نسطر به ناصية البداية: أبا زهراء مأجورين ومثابين وبكم مرحباً في كواليس بشائر.

(صورة أرشيفية محرم ١٤٤١هـ)

* متى ظهرت عندك موهبة الطبخ قبل أن تتوجه للمطبخ الحسيني؟

-لعل بداية التعامل مع الغذاء عموماً تبدأ غالباً في البيت مساعدةً للوالدة حفظها الله، أو ربما تطفلاً عليها أحياناً أخرى.
كانت الوالدة حفظها الله ولاتزال محفزاً في توجيه الخدمة للمناسبات الدينية عموماً، فقد كانت تشجع على أن يكون هناك فعالية يتم المشاركة فيها أسبوعياً على الأقل مثل ليالي الجمعة لقراءة دعاء كميل، ومنها تقديم ما يتيسر من بركة بتحضيرها في البيت.

إن لفظة (موهبة) تذوب في مفهوم خدمة الحسين عليه السلام، فهي من تدفع لكل معنى ولكل قيمة ولكل عمل.

*منذ متى وأنت تمارس الطبخ في المأتم الحسيني؟

-بدأت في ما يخص المأتم تحديداً بالعمل كادراً مساعداً مع الثلاثي الحاج بو أحمد علي بن الخال أحمد المبارك
وأخيه أبي أحمد حسن، والحاج علي البقشي.

تجرني الذاكرة لأول محطة كانت في (حوطة العنود).
واستمرت الخدمة من ذلك الوقت والحمد لله حسب ظروف السنوات، وانتقلت من مكان إلى مكان حتى استقرت في مطبخ المأتم وقوفاً عند السنة الماضية.
وربما كانت هناك تقارير سابقة تتبعت محطات خدمة مضيف مأتم النمر التاريخية.

*حدثنا عن أول مشاركة لك بالمطبخ الحسيني؟ متى كان ذلك؟ وكيف كانت مشاعرك حينها؟ وما العمل الذي قمت به حينها؟

– أولها بالتحديد لا أتذكره، لأنه جزء من برنامج كل موسم عاشوراء منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا.
إن مقدار السعادة بالمشاركة يصعب تقديره بكم أو بكيف.
وتتفاوت المهام مع المواسم، ولكن انساقت مع الوقت لتتركز على شراءاللحوم وتحضيرها.
ولكون هذا الدور يتطلب زيارة أماكن بيع الأغنام في عدة مواقع للمعاينة تترك صوراً ومواقف تطبع في الذاكرة.
فذكريات رحلات حفر الباطن لشراء الأغنام من المزاد شي لا يمكن أن يُنسى.
أو السنوات التي كانت تتطلب أن نقوم بتحميل الأغنام يومياً من الحظائر إلى المسلخ، ثم إحضارها للمطبخ.
أو معارك تحميل العجول وتنزيلها لتؤخذ للمسلخ.

 

(صورة أرشيفية محرم ١٤٤١هـ)

*ما هي الاستعدادات التي يحتاج إليها الطبخ الحسيني؟

-يحتاج فقط إلى الهمة والنية الصادقة، وما سواها يأتي بشكل تلقائي.

*أليس من مهارات محددة تلزم الطباح الحسيني ليحَصِّل آليات الطبخ وممارسته؟

-بالتأكيد يتطلب التعامل مع الكميات معرفة ومهارات معينة، وإمكانية إدارة الكادر والمواد والأدوات.

*صف لنا خطوات الطبخ!

-الخطوات هي:
التخطيط
التحضير
الطهي
التقديم
التنظيف

*كيف يتم التحضير لطهي الوجبات الحسينية؟

-بعد تحديد صنف الوجبة وكميتها يبدأ تحضير المواد اللازمة، فكثيراً ما يتشارك الجميع في التقطيع مثلاً أو التقشير. أو يتم عملها في منازلهم وترسل بعد تحضيرها، أو يكون العمل بعد الانتهاء من تغليف وجبة اليوم الحالي.
يبقى تحضير اللحم، وعادة ما يتم طلبه يومياً في الصباح، وعادة تتولى الوالدة تنظيفه والإشراف عليه ليكون جاهزاً لبدء العمل.
تجمع المواد صباحاً، ويبدأ الطهي إما الضحى أو بعد صلاة الظهر بحيث تكون جاهزة للتقديم عصراً.
بعدها يكون الدور الرئيس للأخوات حفظهم الله بنچاب الوجبة وتغليفها حيث ترتب في مكان استلامها من طرف الضيافة لتنقل إلى المآتم وتوزع.

*متى يبدأ الاستعداد يومياً لإعداد الضيافة الحسينية؟ ومتى تنتهي آخر متعلقاته؟

-كما ذكرت في جواب السؤال، آخر متعلقاته هى النظافة العامة والشاملة، بحيث تغسل كل الأدوات والعدد الأسطح فتمسح وتكنس، ويتم التخلص من كافة النفايات ويعقم المكان.
وتعاد كل المواد المستخدمة لأماكنها مباشرة بعد النچاب، فيكون تقريباً بعد صلاة المغرب كل شي مرتباً ونظيفاً وفي مكانه.

*وما العمليات التي تلي عملية الطبخ بالمأتم؟

– حينما يتم الانتهاء من الوجبة، تبدأ مرحلة التقديم أو تسمى (النچاب). وتكون وفق ما يناسب الوضع في المأتم، فهناك ما يقدم على موائد تفرش في مكان تقديم الوجبات بالمأتم، وجزء آخر يُعبأ في عبوات توزع لمن يرغب بأخذها معه.
ثم تأتي مرحلة التنظيف والتحضير لليوم التالي.

*من الذي يناصفك العمل والحديث أثناء الطبخ؟

– يشارك عادة القائمين على المأتم، والمشرفين على الطبخ (الطباخين) ومشرفي الضيافة.

*حدثنا عن الكميات: كميات الأصناف والأدوات والخضروات، ولكم شخص تقريباً تطبخون؟

-على المستوى الشخصي ربما تجربة خدمة الحجاج هي التجربة الأكثر بروزاً التي كانت لها كميات وأنواع تم التعامل معها.
في المأتم يكون الطبخ محدداً بصنف واحد على الغالب، وهذا يحتاج لمعدات: مثل المواقد والقدور وأدوات التقديم.

أما الكميات فوصلت في بعض المواسم إلى ما مجموعه ١٣٠ ذبيحة،
وعدة عجول لكل الموسم.
وتتفاوت أصناف الطعام التي تُقدم فيما تحتاج إليه من مواد. وعادة ما
نستخدم لها أجود ما يتوافر من لحوم وخضار طازجة تُستهلك يومياً.

*ماذا عن الأصناف التي تقدمونها خلال الموسم الحسيني؟

-تفاوتت الأصناف من مچبوس الصاغة والقيمة الصايغية التي تميز بها المأتم، والبخاري والمندي والعربي.

*مع كم قدر تتعامل؟

-يعتمد عدد القدور على عدة عوامل من معدات ومكان وكادر وإمكانية.

*وما حجم القدر الواحد؟
ولكم شخص يكفي؟

-أكبر قدر تم العامل معه هو ما يتسع لـ٨٠ كيلو أرز، قبل الطبخ وما يعادل ٦ إلى ١٠ ذبائح.

أما عدد الأشخاص فيعتمد على مقاس الوجبة، ولكنه يمكن أن يحسب بواقع ٣٠ شخصاً لكل ذبيحة تقريباً.

بلغ أقصى عدد تعاملت معه أحد عشر قدراً.
طبعاً هذا بمشاركة كامل كادر المأتم.
أما على المستوى الفردي فهو تغذية حجاج لفترة موسم كامل بواقع ٢٥٠ شخص لمدة عشرة أيام للوجبات الثلاث.حيث يتركز العمل على إعداد الطبق الرئيس، أما الأطباق الأخرى فيقوم بإعدادها أخوة آخرين.

*كم يد عاملة يستقطب مطبخكم الحسيني عادة؟
وكيف تتم إدراتهم

-إذا كان القصد لهذه السنة فالمطبخ هو مطبخ البيت مع إضافة (قز) طبخ للمناسبات الصغيرة فقط، والبقية هم أفراد البيت.

*الطبخ بكميات كبيرة جداً كيف يمكن ضبطه؟

-عملياً بالتجربة والاستفادة من تجارب الآخرين.
وعلمياً لها تفاصيل كثيرة اختصاصية.

*هل من خلطات سرية أو سحرية تمتلك سرها لوحدك في المطبخ الحسيني؟

-لا أتصور أن هناك أسراراً….. فالمكان مفتوح والجميع يشارك ويرى كل شي.
هي فقط مجموع المتحصل من التجربة
والنتيجة.

*هناك أكلات عاشورائية شهيرة حول العالم:
الهريسة العراقية، شلة زين العابدين، المحموص، الهريسة، القيمة، المشخول، كعك العباس، الزردة.. وغيرها ..
هل جربت إعداد أو تقديم شيئ منها؟ وهل تتقبل منطقة ما طعام منطقة أخرى بالمآتم حسب تجربتك؟

-كلها اكتسبت طعومها ومكانتها بسبب أن أهل المنطقة يجودون بأجود ما تجود به أرضهم أو أنفسهم.
لذا تكون في الغالب ذات مذاق مميز.
كما هو الحال هنا، ولعل تجارب زوار المنطقة للعتبات المقدسة وما قدموه هناك أثبت وبجداره تفوق المذاق المحلي وجاذبيته لدى الزوار من كافة الأطياف، بل حتى على أقرانه من المذاقات المجاورة.

نعم كانت هناك تجارب عدة، ولكن تبقى الذائقة المحلية أكثر ارتباطاً لدى أهلها بالمناسبة.

*ما الأكلات التي تقدمها في عاشوراء بالمأتم؟

-اشتهرت كل منطقة بأكلات تقدم في عاشوراء.
وفي محيطنا الاجتماعي تقدم عادة وجبات مطبوخة تتكون من لحم أو دجاج أو سمك أو روبيان مع الأرز.

فمثلا اشتهر لدى الأوساط الأحسائية وجبة المچبوس والمرق أو القيمة والمندي وأمثالهم من الأطباق.

*ماذا يمثل لك جو المطبخ وما يدور هناك من محادثات وأمور على هامش الطبخ؟

-تبدأ الاستعدادات قبل الموسم بعدة جلسات تُناقش خلالها الخيارات الأفضل والمصادر المقترحة والسلبيات والإيجابيات.
وعلى ضوء ذلك توضع الخطة وتوزع الأدوار، وتبدأ التحضيرات من شراء مواد كاللحوم والأرز والاتفاق مع الموردين، ومواعيد الاستلام ومكانها، وكيفية تخزينها.
ودائماً يكون اللقاء الأول ذا طابع له حميمية خاصة خصوصاً أن معظم الكوادر يكاد لا يرى الآخر إلا في موسم المحرم.

*كيف تنسق بين الوقت العائلي ووقت العمل ووقت الطبخ، ولا سيما أن وجبات مأتم النمر تستمر لمدة ثلاثة عشر يوماً متتالية

-موسم عاشوراء موسم ينشغل به كل أفراد الأسرة كبيرها وصغيرها، فالوقت يكون بالكامل للمآتم ومن الجميع.
بل يكاد يكون هذا هو السائد لدى المجتمع ككل.
كم هو شعور محزن انتهاء الموسم، فعلى الرغم من أنه موسم حزن وأسى، ولكن بالرغم من الجهد والتعب يُشع في النفس مشاعر جميلة.

*ما أبرز التحديات التي واجهتك في المطبخ الحسيني؟ وكيف واجهتها

-أبرز تحدٍّ واجهني هو السعي لإقناع الآخرين بأن يسمحوا لنا بتولي أدوارهم في العمل. الكل متمسك بدوره ويقوم به وأكثر.
من التوفيق هذه السنة أن نقل العمل بداية الموسم ليكون في البيت لظروف طارئة، نتج عنها استمرار للعمل طوال أيام المحرم.
أنتجت حركة ونشاطاً
وعملاً دؤوباً من جميع من في البيت و في كل زواياه.

*ما القاسم المشترك بين هندسة البناء وهندسة الطعام؟

-يعد الطبخ أحد الفنون الإنسانية عموماً، ومع تطور الحياة أصبحت له أصول ومدارس واتجاهات ترتكز على تطوير صناعة الغذاء.
ومنها تتوالد كثير من الأفكار المنتجة لكل جديد.
حتى أصبح تأثيرها واضحاً على سلوك الإنسان عموماً ونمط حياته اليومية.
هناك من تطور في هندسة الغذاء ليخرج منها بكم هائل من الصناعات الغذائية، وهناك من بقي على حاله.

*كيف يوظف (الإطعام) ضمن الطقوس الحسينية؟

– الإطعام هو أحد روافد إقامة المأتم، وأحد صور الكرم الذي تميز به أهل البيت عليهم السلام، فهو من صفات الأبرار.
وكثيراً ما ذُكر الإطعام في مقام العمل الصالح، لذا كان للمآتم منه نصيب.

*(الإطعام الحسيني يرتقي بمستوی الفكر الإنساني في المجتمع، وبالتالي يحفظ القيم الإنسانية السليمة في القلوب)
ما تعليقكم حول هذه العبارة؟

– ألم يذكر الإطعام في مواضع كثيرة من القرآن الكريم وفي الروايات؟
بل وكثيراً ما يحث عليه؟
هذا من ذاك.

*هل هناك مستفيدين فعلاً من الفقراء والمحتاجين تعود عليهم هذه الوجبات العاشورائية بالنفع؟

– بالطبع هناك مستفيدون، والفائدة لا تقتصر على الوجبات. هناك كادر يستفاد من مساعدتهم للمأتم بأجرة موسمية فتحقق لهم دخلاً بسيطاً لدى الكثير، ولكنه كثير بالنسبة إليهم.
وأعدادهم ليست قليلة، لكن ما يدفعهم قبل المردود المادي أو الغذائي هو جاذبية المأتم الحسيني، فكثير منهم يعمل دون مقابل بل وعلى وضعة يبذل ما يستطيع.
عاشوراء حدث استثنائي لا يُتصور جوانب النفع المتحصلة منه.

هناك من لايُعرف عنه طريق الصلاح، ولكن إذا جاء موسم عاشوراء تجده يهب للمشاركة.

*هل يتعرض الإطعام في الشعائر الحسينية لإشكاليّ: الإسراف أو التبذير؟

– يعتمد هذا على عدة جوانب،
إذا كان المقصود أن الكميات مبالغ فيها فهذا غير دقيق إذا ما تم قياسها بما يستهلك عموماً.
أما إذا كان المقصود هو تعامل البعض مع ما يقع تحت يده من طعام فهي مسؤولية الفرد.
هناك بعض ممن يتعامل معها بشكل غير مسؤول، ولكن هناك من ينتظرها بلهفة إما لشوقه أو لحاجته وهم السواد الأعم.

*ما الفرق بين الطبخ في المأتم قبل جائحة 2020، وما بعدها؟

-طبعاً مع العدد المحدود قلّت كمية الوجبات التي تقدم تناسباً مع عدد الحضور.
كما أن الاحترازات والشروط الصحية حدّت من ملائمة مطابخ بعض المآتم لتطبيق الشروط.
ولا سيما أن طبيعتها تجذب الكبير والصغير، ويصعب التحكم به.
لذا لجأ الكثير إلى نقل العمل لمكان آخر تتوافر به الشروط الملائمة لمطابخ الولائم.

*ماذا عن الطبخ بالمأتم والطبخ للحجاج؟ هل من فوارق فيما بينهما؟

-التحضير لتغذية الحجاج عملية تشبه إنشاء مطعم كامل سنوياً بكل مكوناته وتفاصيله من إنشاء مطبخ لقاعة طعام وضيافة، وتوظيف كادر وتمويل ومشتريات.
بينما المأتم أقرب للمطبخ الشعبي الأكثر بساطة يتعامل مع مكونات
وأصناف بسيطة وكادر في الغالب متطوع.

*أين وجدت نفسك أكثر في المطبخ الحسيني الشعبي أم في مطبخ الحجاج؟

-في مجال الخدمة كلاهما سواء، ولكن على مستوى الحرفية فمطبخ الحجاج أكثر حرفية.

* هل تحدث مواقف طريفة أو حزينة مع الطباخين؟

-الطرفة حدث يلازم عمل المطبخ خصوصاً أوقات التحضير. فالكادر بطبيعة الحال تدور بينه أحاديث وقت العمل، وهذه الأحاديث مليئة بالقصص والذكريات المضحكة والحزينة.

مسك الختام:
سعدنا بعبق الطبخ الحسيني وروائح الولاء الممتزجة بنفسكم الزاكي في الطعام، نتمنى من الله لكم القبول، ونيل شفاعة الحسين سلام الله عليه، ودوام الموفقية والسداد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى