الشيخُ البن سَعد وخُلُق الإِنصاف وضابِطته
شبر الرمضان
حَملُ الرّسالة الإلهية وإيصالها سالمةً إلى سائر النّاس مهمةٌ ثقيلة وتتطلب جهودا كبيرة، وقد وقف لها على مرّ التاريج رجال عظماء حملوا على عاتقهم همّ الدعوة إلى الله واستعانوا بكل ما وهبهم الله من وسائل وأدوات ليوصلوا صوت الحق ويأخذوا بأيدي المتعطشين إلى نهر الفضيلة. ومن أولئك الرجال الأفاضل سماحة الشيخ عبدالجليل البن سعد، وهو الذي تعلم في مدرسة الإسلام الخالدة، ما فتِئ في محاضراته وكتبِه وخطبِه يؤكّد على قيَم الدين الرفيعة ويحث الشريحة المؤمنة على الترقي في العلم والعمل والسير على نهج العظماء من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ومَن أخذ عنهم من العلماء الأمناء أطال الله في أعمار الباقين ورحم الماضين، إلى أن ارتأى الشيخ أخيرا أن يجمع بعضا مما استأنسه وتشرّبه من الدين وما اطمأن له من الفكر والمعرفة خلال مسيرته العلمية والعملية، في قالب رواية تضمنت رسائل ونكاتٍ عميقة إلى كل أطياف المجتمع، الصغير والكبير والمرأة والرجل والمثقف وطالب العلم. وكانت الرواية الرائعة بعنوان (صانع العبقرية).
ومِن تلك القيَم الرفيعة التي شيّد الشيخ بناءها في روايته وأحكم قواعدها برؤية مستمدة من الدين والعقل، هي قيمة وخلق (الإنصاف) وأهميته في بناء الوعي والفكر، وهي رسالته إلى كل ذي لُبّ، خصوصا إلى أهل الدّين الذين يَدعُون إلى الحق؛ حيث أنهم الميزان الظاهر لعموم الناس، وهم الذين إن أشاعوا فضيلة الإنصاف مع مَن يَختلفون معه، واستفادوا منه بالقَدر الذي يقبل به العقل والدّين، كانوا لأتباعهم العين الجميلة التي تلتقط لهم البديع من كل شيء، والروح الصافية التى تنأى بهم عن الدخول في مناوشات ومشاحنات مع من يَقفون معه على طرفي نقيض فضلا عمن يختلفون معه في جزئيات بسيطة. فكان الحوار الآتي بين الخال – الدكتور فؤاد – الذي يمثل خط الوعي والثقافة الإسلامية المتزنة وبين ابن أخته الشاب النبه – بطل الرواية “شبر” – الذي مازال يتعلم في مدرسة التكليف الإلهي، وإليكم نص الحوار الرائع ص٢٠٦: “من أين يستمد الوعي في النقد والتثمين للآخر؟” يسأل شبر. فأجابه الخال: “وعي الناقد يا حبيبي هو عدم قسَطه في الميزان، فإن كان ميزانك الدين مع من خالفك فيه فلا تبالغ في الإبعاد والقطيعة بأكثر مما يسمح به الدين، وإن كان ميزانك الحكم فلا تتجاوز الظاهر إلى أعماق الأشخاص فإن ذلك ليس من شأن العقل”. ثم يتابع ويقول: “إياك وهيّاك أن تجعل من خلافك مع الذين هم معك على وجهي نقيض نقمة مستطيرة تَعفّ على كل شيء .. صدقني يا شبر لو كان تمجيد شخص لسلامته من أي هفوة مما هو دون الضلال الجرار الذي يجر الآخرين خلفه، لما استطعنا أن نعظم أحدا سوى المعصوم؟ هكذا يمكن أن تصنع لنفسك موقفا عبقريا”. فمن سار على هذا الميزان الدقيق فلن يُعدم الإنصاف ولن يَحيد عن صراط الحق والحقيقة.
وفي موضع آخر – في كتاب آخر – يتلو الشيخ البن سعد مترنمًا نموذجا راقيا لأحد العلماء الكبار حينما تعامل مع تهمة وُجّهت لعالم آخر كان يعرفه بالورع والاستقامة، فأجاب هذا العالم التقي بإجابة لها في (الإنصاف) خير مثال وامتثال، والتفصيل موجود في كتاب “هوامش تدقيقية” للشيخ البن سعد ص ٢٥٤. ويقول الشيخ مستظلا بفيء هذا النموذج المتألق: “استطاع -هذا النموذج- بأخّاذيته الأخلاقية أن يثبت في لباب لبي، ويُلهمني كيف أتعامل مع أصحاب الشبهات بورع لا يُنافي الحزم وحزم لا يُنافي الورع”.
وفي موضع أخير – من ليلة الخامس من شهر محرم ١٤٤٢هـ – يتحدث الشيخ مستنكرا على من أعطى لنفسه حق التكهّن وتصنيف الآخر على توجهات معينة؛ فقط لأنه استشهد بمقولة لأحد من هذا التوجه أو ذلك الخط!، فيقول – بتصرف -: “لا تفترض أنني حينما أستشهد باسم أحد أني أوافقه على منهجيته وإذا كنت أختلف مع أحد لا يعني أنني لا أستشهد له بكلام”، ولكي يُكمل الصورة ويُعطيها الإطار الذي يُجمّلها ختم كلامه بأنه نعم يجب عليك أن تتبع المرجعية الفاضلة والعالمة والحكيمة التي تأخذها عن أهل الخبرة ولكن بلا حاجة إلى أن تغمط حق الآخرين و لا تعيش الإنصاف معهم فلا تستشهد بكلامهم ولا تأخذ ما صح عنهم -بتصرف-.
نعم فما أجمل خُلق الإنصاف وما أعظمه لو تفشى في النفوس وسار عليه كل ذي قلم ولسان، وإن ذلك لبحاجة إلى جهاد النفس وتذليلها، وإلا لَما كان ثمنه بيتا في الجنة، كما ورد عن صادق العترة عليه السلام: (مَن يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة)، وذكر منها (أنصف الناس من نفسك).
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما أعان الصالحين على أنفسهم وأن يهدينا سواء السبيل.