مقابلة صحفية: الشيخ البن سعد يروي حكايته مع صانع العبقرية
كمال الدوخي: الدمام
- أدب الرواية اليوم ليس كالأمس فقد أصبحتْ الروايات مَعْبَـراً لنقل أكثر التجارب خطورة وأهمية في العالم
- الأيام كفيلة ـ والعلم عند الله ـ بأن تفاجئنا بنتاجات حوزية أدبية مع فن الرواية
- الالتباس السيكولوجي الذي يعبر عن حمولة أثقال اجتماعية وتربوية وثقافية أيضا تجعل من كل متعلم متمردا
- مهما قرأت في حياة العباقرة فإنك ستجد من المظاهر والحالات المزاجية والنفسية التي تشكل علامة استفهام في دنياهم
رواية صانع العبقرية لسماحة الشيخ عبدالجليل البن سعد، وجدت صدى مميز على مواقع التواصل ومن خلال صحف إلكترونية، وتدفقت أقلام الكتاب لنقد الرواية والحديث عنها، فخروج رواية من بين يدي أستاذ حوزوي يثير الكثير من الأسئلة، فكانت لنا هذه الوقفة مع سماحة الشيخ في مقابلة أردنا أن نناقش من خلالها أصداء هذه الرواية.
- رجل دين وأستاذ حوزة يدخل عالم كتابة الرواية هو أمر نادر الحدوث، وفي الأحساء بالذات أمر نادر حد العدم، ما الذي دفعك لدخول هذه التجربة؟
أدب الرواية اليوم ليس كالأمس فقد أصبحتْ الروايات مَعْبَـراً لنقل أكثر التجارب خطورة وأهمية في العالم، ويمكنني القول أنها تعادل قنوات البث العالمية في التأثير على أخلاق ومشاعر الشباب، و القدرة على إقناعهم بان يفتحوا كل ما يتعلق بالذات وأسرارها ويعرضوا أرواحهم على الرواية كما يعرضون هندامهم على المرايا دون أن يشعروا بالأنفة والغيرة على أنفسهم الحالة التي نراها تظهر عليهم مع من يواجههم بالنقد ويدعوهم للجد مباشرة.
- مضمار الرواية يحتاج إلى أديب أو مثقف أو مفكر ولا يليق بالعمامة، هل هذه الجملة تستفزك؟
قبل الأديب والمثقف كانت الرواية تمثل فن القص الذي هو فن العامّة من الناس، وهذا لم يكن يحظى بأي ترحيب في السابق حتى اشتهرت كلمة العقاد:” لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول”، وأما اليوم فقد أضحت الرواية من أهم الصياغات الفلسفية في القالب الأدبي، وأصبح عدد كبير من محبي الفلسفة في العالم يكتبون الرواية للغرض ذاته، فأضحوا يرون أنهم يقدمون عملين في كتاب واحد رواية زائدا فلسفة.
وقد تراوحت تجربة الحوزة العلمية لأتباع أهل البيت عليهم السلام في مختلف مجالات الآداب كأدب المناظرة، وأدب المقامات، وأدب الملاحم الشعرية، وأدب المذكّرات الذي انطلق في القرن العاشر مع الشهيد الثاني وترسخ أكثر مع مر القرون المتأخرة، وكذا أدب الحوار القصصي، وهنا علينا أن نتذكر القصة الأخلاقية والدينية “القط والفأر” للشيخ البهائي، والقصة الفلسفية “أحلام اليقظة” للشيخ محمد رضا المظفر وهو رجل مجتهد واستاذ دراسات عليا بالنجف الأشرف وكانت قصته تلك حول الملا صدرا، ولكني أتفق معكم بأن الرواية لم تقع موقع الاهتمام في حياة من ميزوا بالعطاء الفكري من بين القامات الحوزية، وقد لاح لي من بعض كلمات الشهيد الصدر أنه كان يقدّر الاهتمام بالرواية ويتطلع إلى اقتحام المثقف الديني لهذا الفن، فعندما كانت أخته الفاضلة بنت الهدى تقول له أنا كلما حاولت أن أكتب الفلسفة كما يكتبها سماحتك لم أستطع كان يجيبها وأنا كلما حاولت أن أكون أديبا كما أنت لا استيطع.
ولكن الأيام كفيلة ـ والعلم عند الله ـ بأن تفاجئنا بنتاجات حوزية أدبية مع فن الرواية الفاتن لأنه من الفنون التي تعيد تشكيل ذاتها مع الأجيال فإن كانت تمثل في السابق مستوى ثقافيا هامشيا فليست اليوم كذلك، فمثلا يقول الروائي الأمريكي (راي برادبوري) قبل منتصف القرن العشرين لم يكن ثمة رواية أو روائي في ميدان الخيال العلمي لكن الحال تغير كثيرا في الوقت الحالي وبدأت كتب الخيال العلمي تظهر بانتظام..
أجل إن مناخنا اليوم أصبح جاهزا ليشهد مثل هذه التغيرات والتحولات أيضا، ولازلنا ننتظر أن تتحرر الرواية من يد الروائيين التافهين الذين استغلوها للدفق الرومانسي الشهوي والمسخ الروحي وبشكل مسِفّ وبعدها عسى أن يزول الشعور بالحرج من نفوس العلماء من الكتابة في هذا الفن، وتتحول إلى صورة من صور الأدب الملتزم لنرى مبادرات كثيرة على هذا الصعيد، وهذا ما نؤمله في القادم القريب إن شاء الله تعالى.
وعلى الجانب الآخر من السؤال يمكنني الإشارة إلى أن الرواية كفنٍ لا تعرف نسبا ولا هوية فقد كتبها اللاهوتي المتأله والناسوتي المتمحور بمحور الطبيعة المادية، وخرجت من قلم المفكر الأريب، والـمُعبّر الأديب، والسياسي، و المحلل الفيلسوف أيضا.
وأما الصوت الاستفزازي الذي يتحدث عنه السؤال فليس في ذاكرتي أي صدى له وهذا يعني أنه لا جولة له في الساحة الثقافية، بلى.. قد يتردد بين الفينة والأخرى نبرات فيها لومٌ ولكني أحسبها نبرات محبة تستعجل طلبة العلوم الدينية على أن يخطوا مثل هذه الخطوة التي باتت ضرورية، وهذه الأصوات وإن كانت أصوات مطلبية لا تستفز انفعالي، لكنها استطاعت أن تستفز خجلي و أن تحرجَ مشاعري كطالب علم تدعوه رسالته أن ينظر في الطريق إلى العقول والقلوب بعين الرّبابنة والملاّحين ليأخذ بأقرب الطرق وأكثرها إمتاعا للنفوس ما لم يكلفه ذلك التخلي عن شيء من مسلّماته و مبادئه!! لذا أنا أعرف جيدا أنني لم أجري في ميدان الرواية سواء مع صانع العبقرية أم مع “الشيخ بهجت كما حضرته” طواعية بقدر ما كنت مسحوبا بحبل الرغبة الاجتماعية، أي أنني مشيت على هذا الطريق بالمشية الفريدة بين الجري والجر!!
- هناك تفاعل مع هذه الرواية لأن كاتبها الشيخ البن سعد، وهذا واضح سواء تفاعل إيجابي أو سلبي هذا التفاعل مطلوب وهو بالتالي يخدم الناشر، لكن هل تشعر بأن هذا التفاعل يخدم الفكرة التي أردتها من الرواية؟
كل ما بيننا وبين الطباعة حتى الآن هو شهران تقريبا، ولكنني تلقيت نتائج لم تكن متوقعة في البداية!! إذ رأيتها كبيرة ومثيرة للاهتمام، فقد تواترت الرسائل والمقالات عبر منصات التواصل تنتسب لفتيان وفتيات وآباء وأمهات حلّت مني محل الرضى والقبول وشعرت معها أن كلا قد أخذ من رسالتي ما يلامس عقله أو روحه أو واقعه الشخصي.
- توجهك للرواية تأكيد على ضرورة التجديد في الخطاب الديني؟
لم تتمثل الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني في “صانع العبقرية” إلا في موارد معدودة ومحدودة، هذا إذا كنا سنلتزم بالحدود الكلامية لمصطلح تجديد الخطاب، فهم يعنون به التنازل عن بعض القواعد والفتاوى و يعنون غلق أبواب معينة من التراث المنقول مما يفهمه غير الديني على أنه يتصل إما بالعنف أو القطيعة مع الحقوق، وكذا يشيرون به إلى ضرورة التغيير لأساليب تعليمية وتربوية حادة كالموقف المتشدد ممن يختلف معنا حتى لوكان من نفس الدائرة الإسلامية أو المذهبية..
وتأسيسا على هذا التفسير لمقولة الخطاب الديني فإن روايتي بعيدة عن أجوائه إلا بمقدار ما دعوت فيه إلى نبذ التشنج مع من لا نرتضي شيئا من فكرهم أو ثقافتهم أو قناعاتهم مع محاولتي الكشف عن الدور الأجدر الذي يجعل تعاملنا نابضا بالروح الأخلاقية والإنسانية والدينية، أجل فقد كان هذا واضحا في الجزء الأخير من الرواية وبالتحديد مع فصل(ذكريات طفرة التكليف)!
بلى.. لقد وقعنا اليوم في فوضى المصطلحات وصارت كلمة تجديد الخطاب الديني يشار بها إلى تغيير الأسلوب الأدبي من خطابة إلى رواية ومن فتوى إلى دردشة بين العالم والمتعلم وكل هذا جميل، ولكنه لا يتصل بمفهوم الخطاب الديني لأنها مسألة من مسائل علم الكلام الجديد ويبقى لها مفهومها الخاص.
لكن أمهلني لأحكي لك وللمتابعين شيئا من تاريخ الصيرورة الأدبية للسرد لأن ما اتقد في داخلي وكـوّن دوافعي نحو هذا المشروع هو ذاته ما وقع في نفوس العلماء والمفكرين القدامى عندما غلّفوا أغراضهم الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية باللباس الأدبي!
ففي ماضي التاريخ واجه أهل الريادة في العلم والدين نوعين من النفوس، فالنفوس ذات النفوذ الأوتقراطي والأرستقراطي المتعصب وهي تعد النصيحة تدخلا مباشرا في الحكم ومنازعة سافرة على الكرسي وشمخ للمقامات، ويليها النفوس المتململة مع النصح والموعظة التي تملك ميكانيزمات التغطرس والغرور بالنفس فتتحرك على غلق كل معابر الروح في وجه العِبرة القادمة مع قوافل الدعوة والإصلاح، وهذا ما ألجأ الحكماء إلى الأسلوب القصصي المحاكي، فخرجوا بأدب جديد اسمه أنسنة الحيوان تمثل في كليلة ودمنة وكتاب الحيوان للجاحظ وكتاب فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء لابن عرب شاه وتلاها أدب المقامات وهي انتقادات من العمق وإلى العمق!! فكانت مقامات السيوطي لا سيما مقامة الرياحين فإنها موغلة في السياسة ولكن الملوك لم ينزعجوا لأنها لا تتخذ الطريقة التقريرية المباشرة!
وكما ألمحت في جواب السؤال الأول فإن الرواية هي حبة شراب الإسبيرين الذي يسيل أفكار تطوير الذات الشخصية والمجتمعية في شرايين المتلقي دون حاجة إلى قسطرة!!
- ما هو الفارق بين تجربة صانع العبقرية وتجارب بعض الروايات والقصص الإسلامية كالتي كتبتها بنت الهدى أو خولة القزويني؟
لم أقرأ للكاتبة الأديبة خولة القزويني.. وأما أعمال السيدة بنت الهدى فهي لا تزال غضة بضة لا يشعر القارئ أنه قد مضى عليها خمسون عاما أو ما يزيد.. وكانت مناوئة للأدب الروائي في عصرها والذي كان يصرخ بموت القيم!
البعض ربما يصف أعمالها بالوعظية وأحسب أن هذا الرأي غافل عن أن الرمزية والسردية في الرواية والقصة هي هوية موحدة للفكري، والوعظي، والنفسي، والفلسفي منها…
وأرى من المناسب أن انقلك إلى رأيي الشخصي فأنا لا أعتقد بأن الرمز شيء غير الرامز والسارد ذاته!! وليس هذا الرأي خصيما للمألوف ولكنه يبحث عن السعة وعدم التضييق على الإبداع لذا فانا أحدد السارد في شخصيات ثلاث:
1 المتواري الذي يحول المشهد إلى غير عالمه من قبيل ساردي الأدب الحيواني المنثور كترجمة ابن المقفع، و كتاب ابن عرب شاه، و الجاحظ، أو المنظوم كقصائد العقاد المشهورة في قصة الكلب وغيره.. ومن قبيل كتاب البخلاء للجاحظ الذي أراد أن يغالط فيها حسبة العقلاء مع من يظهر الكرم والجود!
2 الهامس والنافث الذي يعتمد على صوت السارد وبرمجة القارئ مع التهاويم والخواطر، فتأتي لقطات المشهد بعدها كالمدبلجة، وهذا ما لا يستسيغه الكل رغم أنه المهيمن على المشهد لأكثر من قرن ونصف تقريبا!
3 المتألف الذي يحقق الألفة النفسية والتوافق بين المحكي والمحكي له، فيصعد بآماله أو بآلامه ويهبط بهما، ويفتح إشكالات الحياة ويغلقها، ويُبَسّط موضوع النجاح و يهون خطر الفشل، كل هذا من خلال الحكاية ذاتها وقوة الحبكة من دون سارد يتغلغل بين طبقات الرواية، ولعل “صانع العبقرية” و”الفضيلة تنتصر” للسيدة الخالدة بنت الهدى أقرب إلى هذا النوع بالذات.
وفي كل الأحوال تبقى هذه السيدة المثالية ثاني امرأة مسلمة تكتب مذكراتها وخواطرها في الحج بعد بنت الشاطئ..
وبعقيدتي أنه على بعض النقاد من الأدباء أن يجروا مقابلة تمثيلية مع بنت الهدى حول مشروعها الأدبي ليقدموا أعمالها بثوب شفاف تخترقه كل عيون القراء مهما كان سقف ثقافتهم.
- من النقد الموجه لرواية صانع العبقرية بأنها نص مسرحي أكثر من كونه رواية أدبية والسبب: ضعف السرد القصصي والروائي من جهة وغياب الاستعارات والمجاز من جهة أخرى ولا وجود للحياد ولا الالتباس ولا أي تزلزل أو حيرة لدى شخصية من شخصيات صانع العبقرية. ما هو تعليقك؟
هناك سماتُ تشابهٍ وتقاطعٍ في أشكال السرد، وهي فوق كونها كثيرة دقيقة أيضا؛ ولذا من الطبيعي أن نسمع مثل هذه التقييمات المتصافقة..
حقا لقد عجز الكثير عن ابراز الفرق الفارق بين العمل المسرحي والسردي بالخصوص، وهذا ما أثقل كاهل السرديين لشدة التواصف بين العملين في الخصائص الفنية، فكلاهما يعتمد الحدث والفعل والزمان والمكان ولا يستغني أحدهما عن الثلاثية المعروفة (البداية، والعقدة، والنهاية) كما يمكن أن يظهر من خلال المسرح والرواية على السواء جانب من الحياة الاجتماعية والنفسية للإنسان، وقالوا أن كلاهمما قابل للقراءة الماتعة بخلاف السناريوا التمثيلي لأنه يعتمد الحركة في بعض مقاطعه وهذه لا يمكن أن تكتب ولا تقرأ.
وبعد لأي وجهد حاولوا أن يفرقوا بينهما باعتماد المسرح على الجمهور، وصمت المشاعر إلا ما كان عابرا، فيما تتميز الرواية بتسلسلها الطويل وتعدد الفصول الذي لا يؤلف مثله في العمل المسرحي، و بالنبض المشاعري، و زائدا على ذلك الحشد الفكري والفلسفي الشيء الذي قد يتحول إلى نظريات وكان يفترض ـ من الوجهة الذوقية للكاتب لا أقل ـ أن هذا التمايز بين الرواية والمسرح واضح على رواية “صانع العبقرية”.
لكن النقطة الأهم التي لوح بها سؤالكم هي ما يخص ضعف الجانب السردي..
وبداية يجب أن يكون المقصود بالسرد هو التهاويم والبوح الاستبطاني الذي يقوم به السارد(وبالذات السارد العليم غير المشارك)، فما ينثره عبارة عن خواطر تأتي متعالقة مع صور الأحداث وأطراف الحكاية في القصة.
وهنا أنبه على قاطعٍ مهمٍ بين الروائي الناشئ الذي يبتدئ ناشئا ويبقى ناشئا حتى بعد انتاجه عدة روايات بقلمه!! وأنا أعني بالناشئ من يأخذ بالنقشة الجاهزة للرواية التي ظهرت بمستوى ما مع روائيي القرن التاسع عشر ثم زادت تمددا وتوسعا في العقود المتأخرة، وبين الروائي الذي فكر في الزمن المعيش أولا، ثم صنع من الرواية حبالة يرتهن فيها كل من يواطئها بفكره من أهل زمنه المستهدَفين له!! طبعا لا أريد أن ارجع إلى أطروحة بول ريكور في بصمته الأدبية والفلسفية المدبجة بعنوان:(الزمان والسرد)، بقدر ما أنني أؤكد على أن مساحة الابداع في الرواية لا تضيق حتى أن الكاتبة المعاصرة أحلام مستنغانمي تداخلت مع السرد بأسلوب جديد ما يعرف بشعرية اللغة ويعزى نجاحها إلى هذا التفرد، وإن كان هناك من انتقدها ولم يرتضي منها ما ارتضته لقلمها.
وقبلها نرى الجاحظ وهو أحد أقدم رواد السرد ومجدديه قد تعمد كسر حاجز استعارة الكلمة، الأمر الذي فتح باب الوقيعة فيه من قبل من يعدون في النقاد آنذاك كالهمداني صاحب المقامات الشهيرة لأنه قد خصص مقامة باسم (المقامة الجاحظية) وحط فيها من أسلوب الجاحظ في قلة الاستعارة وبساطة العبارة بقوله:”” قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نَفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة…””، في الوقت الذي جاء شراح مقامات الهمداني وانتصروا للجاحظ يقول محمد عبده:”” إن هذه الأوصاف التي يعدها من مناقص كلام الجاحظ هي أعلى مزايا الكلام عند أهله وهي التي ترفع مقامه على غيره …””.
واليوم أصيب السرد بتورم خطير حتى أصبحت الهلاوس والهذيان متعبة لذهن القارئ الذي صار يغوص في قيعان النص لهذا الكاتب أو ذاك و لكن يخرج من دون لؤلؤ ولا مرجان، بل لا يفهم ماذا يريد أن يقول الروائي ؟!
أتذكر أنني أمسكت بعض هذه النماذج ولكن نفسي أبت التصبر عليها!
وصدقا فإني أرى أن هذه الانطباعات كلها قد اندمجت في اللاوعي الذاتي عندي حتى خرجتُ بفكرة جديدة تعوزها التجربة وهي عدم كنز جسد الرواية بالتلحيم والتشحيم السردي حيث يفضي إلى السمنة المشوِهة، ولكن وبدلا عن ذلك أستحسن أن يوضع السرد في هيأة الرأس من جسد الرواية، وهذا ما يعبر عنه الفصل الأخير”مقهى الكتاب” والذي أردت أن أحقق من خلاله دينامية تواصلية بين الروائي والقارئ ليشعر الأخير بأنه يشارك الكاتب في حصاد الرواية على أعتاب الختام.
وأما ما يجب أن يكون ملتفا بجسد الرواية فهو بعض وظائف السرد وجمالياته لا أكثر، كالمحافظة على الصورة ثلاثية الأبعاد للمشهد وتفاصيله بشكل يلهب الإحساس و يلقي بذبذباته اللاسلكية في روح القارئ ليتفاعل بقسمات وجهه وحركات جسده أثناء القراءة، ويحدث في داخله نشاطا بركانيا داخليا، ويجعل من دماغه كخشبة طافحة على موج الخيال، و هذا ما سعيت إليه حدود استطاعتي، ولست واثقا من بلوغي ذلك إلا بمقدار امتحاني للنص أمام مجموعات مختلفة ومتفاوتة في العمر والثقافة والمشرب أي قبل أن أقدّم الرواية للطباعة، وقد لمست معها نتائج مرجوة شجعتني على طرحها أمام القارئ المسلم العربي والشيعي خاصة.
- تعبيرك بالنشاط البركاني الداخلي في نفس القارئ هل أخذته عن تواصل مباشر مع بعضهم؟
أجل.. فأنا حينما أنهيت كتابة “مقهى الكتاب” وطبعت اللوعة على صفحات زاهر النفسية، لم أكن متأكدا تماما من تماهي القارئ مع هذه الحالة حتى تسلمت بعض الرسائل التي شعرت معها ببلل الدموع!! فقد كتبت إحداهن تعبر بسجيتها :” أبي أعيد تاريخي من عمر تسع سنوات وأصقله صقال.. نبي تاريخ الطيبين الجميل الملائكي الفطري المحاط بمحيط دافئ يغمره حب الله وحب الدعاء المتواصي دائما بالحق والصبر المتوكل على الله .. مدري شقول مدري شخلي… شكرا على تلك السطور العميقة الهدف الباطنة المعنى…”!! وكتبت فتاة أخرى بقلم الحسرة”اتمنيت أنولد من جديد وأشارك في مخيم التكليف واختار الشخصية اللي تكون قدوة في حياتي من شخصيات الكتاب وأقرأ مجلة المجتبى”، والحقيقة أن هناك مجموعة قصاصات أخرى تنبض بذات الإحساس، ربما ستدرج كتعليقات على موقع قبس.
- عد بنا إلى الملاحظة الأخيرة في السؤال فما رأيك بالانطباع الذي يقول أنه: لا وجود للحياد ولا الالتباس ولا أي تزلزل أو حيرة لدى شخصية من شخصيات صانع العبقرية…”؟
حينما يضع قارئ الرواية على عينيه نظارات أدبية مصنّعة خصيصا لبيئةٍ روائيةٍ ما، فمن الطبيعي أن تنقلب لديه الصور بعد الانتقال إلى أية بيئة أخرى!!
أصبحت أشك في التباس معنى الالتباس عند الناقد اللطيف الذي يختفي وراء سؤالك!! فنحن لدينا الالتباس الفلسفي والذي أصبح يدعى بـ(حكمة اللايقين)، وهو مسلك يتسع للعديد من زعماء الروائيين وليس بعيدا عنهم في هذا العصر “ميلان كوانديرا”.
وهناك الالتباس السيكولوجي الذي يعبر عن حمولة أثقال اجتماعية وتربوية وثقافية أيضا تجعل من كل متعلم متمردا وفي بداياته بالذات .
طبعا لست ممن يستسيغ الطراز الأول من الالتباس بل أعده جناية في حق نفسي وديني ومجتمعي، ويسعك أن تشعر مع بعض الروائيين بممارستهم الأدلجة القسرية مع هذا النوع من الالتباس و الذي لا قيمة له في نفسه لأنه غير واقعي ولا علمي!! إلا أن النمط الثاني كان واضحا في الرواية بقوة الشمس، فشبر(محور الرواية) قد قابلَ العادة الثقافية بتزلزل وحيرة ظهرت للقارئ في الفصول الستة الأولى على التوالي.. ولم يقلل من خطورته إلا حكمة الأب وسعة باله وحسن إدارته لمسؤوليته الأسرية، ثم تطور موقفه ليصبح ممارسا لزلزلة الآخرين بطرح الأسئلة التي تتهدد المشروع ذاته وكان هذا في الفصل الحادي عشر والرابع عشر!
- أيضاً وجه أحد النقاد ملاحظة حول محاولة الراوي وضع شبر كعبقري إلا أن القارئ يجد شبر مجرد مثير للأسئلة، ما تعليقك؟
جميل.. لا أخفيك أنني أبتسم وأنا أقرأ مثل هذا الاعتراض، وفي نفس الوقت أشك في رسوخه بذهن الناقد نفسه إن كان فعلا قد قرأ الرواية قراءة متَمّمَةَ الشروط!
أتعرف أنني حبكت الرواية على الطريقة التي أظن أنها ستثير في القارئ شهية الفضول في اطلاق الأحكام!! ولكن حينما يحكم بالسلبية على مشهد أجعله يخسر حكمه في مشهد آخر، وإذا حكم بالإيجابية في فصل قد ينقلب به التصور في فصل لاحق، وهذه هي رياضة لقياس لياقة الذكاء الشخصي للقارئ وفحصها فحصا ذاتيا!
وفيما يبدو لي فإن الناقد العزيز حكم على ظاهرة الأسئلة بتصوره البدائي.. ولو كان تابع مع الرواية فسيتعلم أن عملية طرح الأسئلة هي من المهارات المعقدة، وأن هذه المهارة أتقنت لدى شبر فهو لا يطرح السؤال العشوائي، وإنما نصغي معه إلى السؤال التحليلي، والتركيبي، والتقويمي، والتطبيقي، وما يواخيه من المعاني المنطقية التي ذكرت للسؤال والتي تحتاج إلى عبقرية خاصة!
وبالرغم من هذا فإن عبقرية شبر لم تكن لتختص بظاهرة السؤال فقط، وإنما برزت ظاهرة السؤال لأنها الصورة الأقرب للفصل بين المراهقة اليقظة و المراهقة التافهة، وإلا فإن عبقرية شبر قد تجاوزت السؤال إلى حالات أخرى من العبقرية، نعد منها العبقرية الروحية التي تجلت في الارتباط (فريد الوعي) بالمسجد، وبالمشايخ، وبالمعلمين، وبالأصدقاء…والعبقرية الذهنية التي منحته عمق الملاحظة في أموره كلها، فقد استطاع أن يشارك في حوار ثقافي متفوق بمداخلة أحالت خاله المتعملق فكريا الى لحظات من الوجوم والتأمل، وتجلت هذه القوة أيضا في نقده لبعض المظاهر وراء الرواديد، كما جعلته يتميز بكتابة المفكرات التي كانت بوابته على الماضي بعد أن خرج من شرنقة المراهقة!
- اختزال دورة التكليف في جلسة افتتاحية وزيارة المعرض وأخيرا الجلسة الختامية، هل كان اختزال مقصود أم هفوة فنية؟
دورة التكليف لا تشكل الثيمة للرواية.. إنما الثيمة هي الإحساس بالتكليف الذي يصنع التموضعات الإنسانية والاجتماعية الكبيرة، وبالتالي يدفع إلى مثل هذه الدورات، وينشط روح التضحية التربوية لدى الشرائح المؤثرة من مثل رجل الدين، والأب، إلى الفنان، فالرجل والمرأة، بل من الحي إلى الميت ومن الميت إلى الحي، حتى يأتي المعلم في المرتبة الأبرز من الجميع، لأن التعليم هو الحقيقة الضائعة في عصرنا..
أتدري.. فإن الناقد الحبيب الذي تشكلت من ملاحظاته حواريتكم الشيقة هذه قد أطلعت شخصيا على ملاحظته التي يقول فيها إن الرواية تركت ما هو مركزي واشتغلت بما هو هامشي، وجعل مثال ذلك التعليم حيث أبدا استغرابه من زرع المعلم على تمام سطح الرواية!!
وحينما راجعت مقالته لم يطل بي التأمل في اكتشاف الفجوة لديه، فهو قد أعلن في مطلع تعليقه أنه سيتجاوز الثيمة!! وليته علم أن الثيمة هي البوصلة التي تأخذ بالناقد في كل اتجاهات الرواية، وأن تلك الاتجاهات ذاتها ستتحول إلى متاهات إن لم تمسك بالبوصلة!!
فعندما يكون الدين هو صانع العبقرية (وليس دورة التكليف) فلا بد للكاتب أن يبرز آليات الدين المعنوية في بناء الأمة كلاً بحجمه المحسوب طبعا، و إن آليات الدين في نسج مجتمع “متكلفن” هي: التربية، والتعليم، والأنشطة الثقادينية، والقراءة، فكان من الطبيعي أن تهتم الرواية بالحديث عن كل منها وبالكشف عن تحدياتها، وقد كان نصيب التعليم هو الأكبر. لأن التعليم أسلوب رياضي ترويضي لقيام أفراد الأمة بتكليفهم واكتسابه بأتم وجوهه، وقد تدرجت الرواية في إعادة الاعتبار والهيبة لهذه المهنة المهضومة حتى انتهت بعقل القارئ إلى ما اسمته “امبراطورية التعليم” التي ترتبط بها نهضتنا وحضارتنا المنشودة!!
- ألم يكن من الأجدر عزل “المقهى الدوري” عن “صانع العبقرية” للمحافظة على أدبيات الرواية بدلا من وجوده النشاز؟
لقد قتل اعتراضكم هذا على يدي جواب السؤال 6 أليس كذلك؟
- هل بإمكاننا أن نقول أنك ترى بعدا جوهريا للرواية والسرد دفعك لتجاوز آخر ما ظهرت به حركة السرد ؟
الفكرة الراجحة لدي حول الرواية قد احتضنها الجواب على السؤال الخامس ولكن يمكن أن أُبسِّطُها في كلمة أخرى وهي: أن الرواية تعني القصة المسرودة التي متى ما تشكل فيها العمق الرؤيوي المليء بالنقد والدفاع، والنظريات، و الإثارة الوجدانية، وتحريك المتلقي على تصنيع النص، بحيث تسيل مع سطورها الرؤى كالنبع، وتحمل من جهة أخرى شخصية كاتبها أو أي شخصية مستهدفة بشكل ظاهر أو مخفي فهذه يجب أن تكون رواية نعتقد أنها فوق المسرح، وأنها فائقة على القصة ذات الشعلات القليلة أو الخافتة، وإن لم يكن لها صوت يعبر عنها الذي يصطلح عليه بالسارد، وبحسب تعبير الدكتور سعيد يقطين :”هي سيرة بحث وسيرة اكتشاف، اكتشاف في الواقع واكتشاف في الذات وبحث عن الظاهر وبحث خلال الظاهر عن الباطن، وبحث من خلال الأحاسيس كيف تتحقق في الظاهر”.
ولعلنا نثير النقد إذا أصررنا في القول بان هذه الايقونات التي عدّدناها يمكن أن تظهر على متن القصة، وتفتح لك مجالا للغور فيما يترسب تحت طبقة سطورها، حتى لو لم يكن هناك السارد المشارك أو العليم غير المشارك كما يعبرون..
- أتعني من قولك “وتحمل شخصية كاتبها أن الشيخ عبد الجليل كان متمثلا في الرواية”؟
لقد عشت عدة أدوار رئيسة في حياتي مع التكليف، وإخال أنها جاءت موزعة بين فصول الرواية وشخصياتها، فالدور الحواري الذي ربط أيوب بأسرته كنت أمارسه بانتظام في بيتي منذ ما يقرب من العشر سنوات، كما لدي مجلس أسبوعي مع الشباب دخل عامه الثاني عشر، وهذا ما أوحى بالفصل السادس فكان الدكتور فؤاد أنا وكنته أيضا!! ومن خلال إشرافي المباشر ومشاركاتي القديمة والحديثة مع برامج التكليف تخلقت شخصية الشيخ محمد أمين.
- كيف استقبلت قراءات الشباب ومتابعاتهم للرواية؟
هناك التشجيع، وهناك العمق في الملاحظة ما يساعد على تمييز النظرية التي يتفرد بها الروائي عما سواها، وقد احتسبت لأحد الكتاب المتعقبين تفرده في الوصول إلى النظرة الخاصة بالسطحية والجهل عندما عبرت عنهما بالنزعة نفسية وأزمة تاريخية وليست مشكلة على خلفية فكرية أو اجتماعية.
وأيضا فالأجواء التي عشتها مع القراء والمعقبين كانت لذيذة بلذة الطرفة أيضا!!
ومن الطُـرف أنني في الأيام الأولى من صدور الرواية سألت أبنائي وبناتي وكنّا في اجتماع عائلي نهاية الأسبوع من منكم يخمن بحكاية الرقم 100000 الخاص بفصل”ذكريات طفرة التكليف” بعد الرقم 14 الخاص بفصل”على الدرب سائرون” ؟؟
فاندفع اثنان أو ثلاثة من الأبناء ـ وهم في سن المراهقة ـ للجواب وقالوا: إن رقم 100000 يرمز إلى أنه قد طوى سنين عديدة من العمر.. ولكن كانت دهشتي عظيمة حينما قرأت لأحد الكتّاب الناضجين يقول: ولا نعلم لماذا يأتي هذا الفصل بعد الفصل الرابع عشر؟!
كما أن هناك قراء صرحوا في رسائلهم أنهم قرأوها لمرتين أو ثلاث.. و كنت أشكرهم على ذلك من باب المجاملة إلا أنني لا أرى أن تكرار القراءة سيضيف شيئا أو سيجنب القارئ فهما يمكن أن يقال في حقه هشا.. إلى أن تلقاني أحدهم بالمفاجئة إذ كان يرى في تقريع “ماريا” لابنها” شبر” في امر ملابسه شيئا منافيا لصبغة العبقرية .. فحينها استرجعت ذكاء البعض فيما ألزم به نفسه من الإعادة والتكرار؛ لأنك حينما تستعجل نفسك فقد تأتي بكلام ترسم تحته علامة تعجب مسدوحة !!
مهما قرأت في حياة العباقرة فإنك ستجد من المظاهر والحالات المزاجية والنفسية التي تشكل علامة استفهام في دنياهم، بل وفي مشاويرهم العلمية أيضا، فكم عبقري مطلاق(حتى قيل زوجات المشاهير هن الأشد معاناة)، و آخر يقرأ ويكتب في حالة من الفوضى لا يعرف النظام والتنظيم رغم أنه ينتج مشاريعا فلسفية ضخمة، وهذا ما اعترف به على نفسه الأستاذ الفيلسوف غلام حسين الديناني، أم هل نسينا الكثير من العباقرة المهملين لجانب الصحة؟ ولا أعجب من أحمد المالقي صاحب كتاب رصف المباني في حروف المعاني و هو عالم اللغة المعروف الذي بلغ به الجهل بأسباب الحياة أنه فكر ذات يوم أن يطبخ فوضع الملح في الماء ولما رآه ينماث في القدر ذهل وقال سبحان الله ؟!
فهل كان ذنب الرواية أن تحكي مفارقات في حياة العباقرة بشكل دقيق، أم ذنب بعض القراء حينما يضرب السطور بنظرة واحدة كما يضرب الفنان المتوتر نفسياً جميع أوتار القيثارة ضربة واحدة عشوائية؟!