الموسى: للمخلص معاملة خاصة مع الله أبرزها العلم والحكمة
مالك هادي: الأحساء
“لماذا الحديثُ عنِ الإخلاصِ؟ لأنهُ أساسُ الدينِ ودعامتُهُ التي يرتكزُ عليها في عمليّةِ بناءِ الإنسانِ على خطِّ الإيمانِ باللهِ والتوجُّهِ الدائمِ إليهِ وتوحيدِهِ، كما أنَّهُ رأسُ الفضائِلِ، والمناطُ في قَبولِ الأعمالِ وصحَّتِها، فلا قيمةَ لعملٍ لا إخلاصَ معهُ”بهذا استهل سماحة الشيخ عباس الموسى إمام مسجد المغتسل بالعمران في خطبة الجمعة لهذا الاسبوع.
وذكر الشيخ الموسى أن للمخلِصِ في أعمالِهِ وعبادتِهِ معاملةٌ خاصةٌ معَ اللهِ، فمثلًا يُعفَى مِنَ الحسابِ في يومِ الحشرِ وعندَ الوقوفِ في عرصاتِ يومِ القيامةِ، فقال: ليسَ لهؤلاءِ أعمالٌ تُوجِبُ حضورَهُمْ في عرصاتِ يومِ القيامةِ، فهُمْ قدْ قَتلُوا النفسَ الأمّارةَ بالسوءِ في ساحاتِ جهادِ النفسِ وترويضِها بالمراقبةِ والعبادةِ والأعمالِ الصالحةِ، وتمَّ لهمْ حسابُهُمْ خلالَ فترةِ جهادِهِمْ لعدوِّهِمُ الباطنيِّ والظاهريِّ في الحياةِ الدنيا.
وأضاف أيضا : أن كلُّ ما يُعطَى الإنسانُ في يومِ القيامةِ مِنْ ثوابٍ وأجرٍ فهوَ مقابِلُ ما عملَهُ في الحياةِ الدنيا إلَّا طائفةُ المخلَصينَ مِنَ الناسِ، فإنَّ الكرامَةَ الإلهيَّةَ لهمْ تتعدَّى حدودَ الأجرِ على العملِ كما أخبَرَ تعالى بذلكَ في كتابِهِ الكريمِ حيثُ قالَ: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾ فهمْ لا ينالونَ الجزاءَ مقابِلَ العملِ وإنَّما ينالونَ مِنَ الكراماتِ الإلهيّةِ وفقَ إرادتِهِ تعالى ومشيئتِهِ وفيضِ كرمِهِ وسعةِ عطائِهِ الذي لا حدَّ لهُ.
وحول ما يحصل عليه المخلص قال الشيخ الموسى: ومَنْ يُخلِصْ للهِ يرزقْهُ اللهُ العِلْمَ والحكمةَ، كما في الحديثِ عنْ رسولِ اللهِ (ص) أنّهُ قالَ: (مَنْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ)، فالمداومةُ على الإخلاصِ تُورثُ الإنسانَ العلمَ الإلهيَّ الّذي ليسَ فوقَهُ أيُّ علمٍ، وأيضًا يرزقُهُ اللهُ تعالى البصيرةَ في دينِهِ؛ فلا تلتبسُ عليهِ الأمورُ، ولا يقعُ في مُضلّاتِ الفِتنِ، ويصبحُ عارفاً بطريقِهِ جيّداً وموقناً بما يفعلُهُ، فعنْ أميرِ المؤمنينَ (ع) أنّهُ قالَ: (عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِخْلَاصِ تَسْتَنِيرُ الْبَصَائِر).
ومن جهة أخرى تحدث سماحته عن علاماتُ الإخلاصِ في العملِ فذكر منها :
أولًا: تَجَنُّبُ حبِّ المدحِ والإطراءِ: فلا يستقيمُ الإخلاصُ وفي قلبِ الإنسانِ حبُّ المدحِ والثناءِ مِنَ الناسِ لَهُ، عندَما يعملُ العملَ وينتظرُ مِنَ الآخرينَ المدحَ فهوَ غيرُ مخلصٍ للهِ في عملِهِ، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (ع): (إِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَ الْإِطْرَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِن).
وعلق قائلا: هذا الكلامُ إذا كانَ الإنسانُ فِعلًا يعملُ عملًا ويريدُ أنْ يُحمَدَ مِنْ قبلِ الناسِ، ولكنْ في بعضِ الأحيانِ لا يقدِّمُ الإنسانُ العملَ ولا يفعلُ الفعلَ بنفسِهِ، بلْ هناكَ مَنْ يعملُ ويتعبُ ويبذلُ ويأتِي هوَ على أعمالِ الآخرينَ، ومعَ ذلكَ يحاوِلُ أنْ يجلِبَ مدحَ الآخرينَ لهُ، ولِذا يصِفُهُمُ القرآنُ بوصفٍ دقيقٍ: (وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا)، وهذا ليسَ عملًا خالصًا بلْ كما عبَّرَ الإمامُ الصادقُ (ع): (والْعَمَلُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا تُرِيدُ أَنْ يَحْمَدَكَ عَلَيْه أَحَدٌ إِلَّا الله عَزَّ وجَلَّ)، وفي روايةٍ عنْ رسولِ اللهِ (ص): (إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ حَتَّى لَا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ اللَّهِ).
ثانيًا: أن لا يَقصدَ المرءُ الشهرةَ بينَ الناسِ، ولا يرجُوَ استماعَهُمْ إليهِ، أوْ يَسعَى إلى اجتماعِهِمْ عليهِ -وإنْ كانَ كلُّ ذلكَ مِنْ (عاجِلِ بُشرى المؤمِنِ) إذا أخلصَ- في الصحيحِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الشَّيْءَ مِنَ الْخَيْرِ فَيَرَاهُ إِنْسَانٌ فَيَسُرُّهُ ذَلِكَ، قَالَ: (لَا بَأْسَ، مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ فِي النَّاسِ الْخَيْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لِذَلِكَ)، وعلق قائلا: وأمَّا إذا صنَعَ ذلكَ مِنْ أجلِ الشهرةِ فليعلَمْ أنهُ ليسَ مخلِصًا للهِ، ولا يريدُ وجهَهُ تعالى، وهوَ تمامًا كما جاءَ في الحديثِ عنْ رسولِ اللهِ (ص): (رُبَ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَر)، وكمْ مِنْ أعمالٍ يَتْعَبُ الإنسانُ فِيها ويظنُّ أنَّها خالصةً لوجهِ اللهِ تعالى ويكونُ فيها مغروراً لأنهُ لا يدرِي وجهَ الآفةِ فِيها، كما حُكِيَ عنْ بعضِهِمْ أنهُ قالَ: قضيتُ صلاةَ ثلاثينَ سنةً كنتُ صليتُها في المسجدِ جماعةً في الصفِّ الأولِ؛ لأنِّي تأخرتُ يوماً لعذْرٍ، وصليتُ في الصفِّ الثاني فاعترتْنِي خجلةٌ مِنَ الناسِ حيثُ رأونِي في الصفِّ الثانِي، فعرفتُ أنَّ نظرَ الناسِ إليَّ فِي الصفِّ الأولِ كانَ يسرُّنِي، وكانَ سببُ استراحةِ قلبِي مِنْ ذلكَ مِنْ حيثُ لا أشعُرُ.
ثالثًا: النظرُ في البواعِثِ والأسبابِ التي تدفعُهُ وتحركُهُ في العملِ، فقال: هلِ الباعثُ اللهُ، وهلِ الباعثُ إحياءُ الشعيرةِ، وهلِ الباعِثُ تعليمُ الناسِ، وهلِ الباعثُ إيجادُ لحمةٍ اجتماعيةٍ؟ ما مشروعُكَ؟ وما هدفُكَ؟ لوْ أُقِيمَتِ المشاريعُ والأعمالُ حقدًا وحسدًا، فهذِهِ مجانبةٌ للإخلاصِ.
فمثلًا إذا تحرَّكَ الإنسانُ في عملٍ فقط لأنَّ فلانًا يعملُ هذا العملَ، أو مثلًا لأنَّ الجماعةَ الفلانيةَ تُقيمُ الشعيرةَ الفلانيةَ فهو لا يحضُرُ عندهُمْ بلْ يقومُ بمثلِهِمْ مع وجودِ الحسدِ، والمضاددةِ في العملِ، والمنافسةِ، فهذه منافسةٌ غيرُ مخلَصَةٍ للهِ.
وفي رسالة صريحة للمجتمع قال الشيخ الموسى: علينا أنْ نجتهِدَ في إخلاصِ نياتِنا عندَ القيامِ بأيِّ عملٍ، ولكَي نتحرَّكَ في هذا الطريقِ فلنحرصْ أنْ لا نكونَ ضدَّ بعضِنا في العملِ، بل إنَّ علينا أنْ نُبدِعَ في إنشاءِ كلِّ المشاريعِ الخيريةِ النافعةِ دونَ محاربةِ الآخرِ، وأنْ نفكرَ في المشاريعِ الجديدةِ التي تجمعُ وتقرِّبُ، وأنْ لا يكونَ هَمُّ أحدِنا أنْ يكونَ الأسبقَ في العملِ الفلانيِّ الذي لا يرغبُ لفلانٍ أو الجماعةِ الفلانيةِ أنْ تعملَهُ، ولنعلَمْ جيِّدًا: إذا كانَ الباعثُ اللهَ؛ فإنَّ اللهَ يوفِّقُ العملَ، وإذا كانَ حسدًا ففي كثيرٍ منَ الأحيانِ يفشلُ المشروعانِ أوِ العملُ المضادُّ لأنهُ غيرُ خالصٍ للهِ.
رابعًا: المحبةُ لعملِ الخلوةِ: وهي مِنْ أبرزِ علاماتِ الإخلاصِ، وأشدُّ ما يحرصُ عليهِ المخلِصونَ إخفاءُ صالحِ أعمالِهِمْ غيرِ الفرائضِ، وقدْ وردَ عنْ رسولِ اللهِ (ص): (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ)؛ لأنَّ أعمالَ السرِّ أشدُ على الشيطانِ، وهيَ أبعدُ عنْ مخالطةِ الرياءِ والعجبِ والشهرةِ، وردَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ مِنْ أَغْبَطِ أَوْلِيَائِي عِنْدِي عَبْداً مُؤْمِناً ذَا حَظٍّ مِنْ صَلَاحٍ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَعَبَدَ اللَّهَ فِي السَّرِيرَةِ وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ فَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِع)، وعَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) (يَا عَمَّارُ، الصَّدَقَةُ وَاللَّهِ فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ وَاللَّهِ الْعِبَادَةُ فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعَلَانِيَةِ).
وشدد الموسى على أن الإنسانُ إذا عملَ أمرًا في الخفاءِ فلا يُفْشِهِ فيما بعدُ، حتَّى لوِ انتهَى فإنَّ نَشرَهُ لهُ لاحقًا كنشرِهِ لهُ ابتداءً، فقال: إياكَ إياكَ أنْ تضيعَ ما تعبتَ فيهِ وكدحتَ لهُ لتنقلَهُ مِنْ ديوانِ السرِّ إلى ديوانِ الجهرِ فإنْ كنتَ باقيًا على إخلاصِكَ فلا تُفشِهِ، وإلَّا فَسَدَ، وَردَ عَنِ أبي عبدالله (ع): (مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً سِرّاً كُتِبَتْ لَهُ سِرّاً، فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا مُحِيَتْ وَكُتِبَتْ جَهْراً، فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا ثَانِياً مُحِيَتْ وَكُتِبَتْ رِيَاءً).
وفي ختام حديثه تسائل الشيخ الموسى فقال: هلْ يَعنِي ذلكَ أنهُ لا نعمَلُ عملًا ونعلنُ عنهُ، ونبرزُهُ للناسِ؟ إذاً كيفَ يحضرُ الناسُ ويتعلمونَ ويكتسبونَ وتتحققُ الأهدافُ؟
فأجاب قائلا: نحنُ نتحدثُ عنِ النيةِ وهلْ هيَ مخلَصَةٌ للهِ، فمثلًا ربَّما يُصوِّرُ أحدهُمُ الحدثَ أو يُعلِنُ عنهُ لتحفيزِ الآخرينَ للحضورِ والفائدةِ مخلِصًا وليسَ مرائِيًا، وليسَ لديهِ غرضٌ آخرُ، أو لا يفكرُ في أنْ يَبْرُزَ هوَ كفردٍ بالضرورةِ، وإنما يَظهرُ عملُ المجموعةِ مثلًا، فالمدارُ على النيةِ وإخلاصِها.
وبتعبيرٍ أبسطَ: لا بدَّ مِنْ موافقةِ الباطِنِ للظاهرِ وعدمِ مخالفةِ السريرةِ العلانيةَ، وهذهِ مِنْ صفاتِ عبادِ اللهِ المخلصينَ الذين يفعلونَ ما يقولونَ، ويخالِفونَ بهذِهِ المنافقينَ الذينَ قالَ اللهُ فيهِمْ: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾.