صحتك مع التكنولوجيا.. منذ السبعينيات وإلى الآن كيف دمرت الحواسيب أجسامنا؟
بشائر: الدمام
كتب هنري جيتسون في نهاية عام 1980 لمجلته المفضلة والمخصصة لهواة الحواسيب والتي تُدعى”سوفت تالك” (Softalk)؛ واصفا نفسه بأنه مستخدم حاسوب “أقل من خبير”، كما أعرب عن تقديره لأسلوب المجلة التمهيدية والمقالات التي يمكن الوصول إليها، خاصة بالنسبة لشخص مثله، وهو الذي اشترى مؤخرا جهاز حاسوب شخصي وكان يتعلم البرمجة فقط.
واختُتمت رسالته بسؤال قصير وهو “ملاحظة. هل لديك أية علاجات للعيون المتعبة؟”.وقد عرف محررو سوفت تالك بالضبط ما يعنيه جيستون، واستجابوا بإسهاب لهذه “المشكلة التي يتشاركها ويعاني منها العديد من خبراء الحاسوب”.ويُعتبر ما اكتشفه جيتسون هو نفس ما اكتشفه بقية مستخدمي الحاسوب الشخصي الأوائل في الثمانينيات والذي هو مدى الضرر الذي يُسببه استخدام أجهزة الحاسوب، حيث تبيّن أن الشاشات تسببت في إجهاد العين أو بعبارة أدق؛ يُجهد العيش مع أجهزة الحاسوب العيون بشكل روتيني، ذلك أن مشاكل الرؤية كانت هي الشكوى الوحيدة حينها للتفاعلات بين أجساد البشر والتكنولوجيا قبل أن تتطور الحرب لتتعدى البصر إلى وظائف أخرى.
الحاسوب أخطر من التلفاز
جلبت ثورة الحاسوب المزعومة معها عالما من الألم للبشرية لم يكن معروفا من قبل، وذلك قبل عقود من انتشار ما يُسمى بـ “إجهاد زوم”، حيث لم يسبق لنا مشاهدة ما فعله الجمع بين الجلوس والنظر إلى شاشة الحاسوب في جسم الإنسان في كل تاريخ التفاعل الإعلامي، وذلك على عكس مشاهدة التلفاز التي تتطلب مسافة أكبر بين الشخص والشاشة، كما أنه لا يحتاج إلى التفاعل.
فاستخدام الشاشة في التلفاز يتطلب من المُشاهِد مجالا قصيرا وحركات العين المتكررة تكون قليلة أيضا، وتناسب مجموعة متنوعة من وضعيات الجلوس وأنواع المقاعد والمسافات من الشاشة مشاهدة التلفاز، بينما تطلب الحواسيب الشخصية من الجسم البشري البقاء بقربها عادة أقلّ من 2-3 أقدام، وهذا مع تمديد الذراعين لاستخدام لوحة المفاتيح أو الفأرة.
الألم الصامت منذ السبعينيات
كان الألم المرتبط بالحاسوب بالطبع موجودا قبل وصول أجهزة الحاسوب الشخصية الأولى من فئة المستهلك في أواخر السّبعينيات، فمن المعروف أن الحواسيب الكبيرة والحواسيب الصغيرة واسعة النطاق مع استهلاكها العالي للطاقة واحتياجات التبريد ومحركات الأشرطة الدوارة والطابعات اليدوية تسبب إجهادا للنظام السمعي، حيث تُعتبر هذه المعلومات هي إلى حد كبير قصصية وذلك نظرا للعدد الصغير نسبيا من الأشخاص الذين تعاملوا مباشرة مع منشآت الحوسبة قبل السبعينيات.
وسيتحول موضع المخاوف الصحية من السمع إلى النظر، وذلك بمجرد أن تبدأ أنظمة الحوسبة في التقارب مع شاشات “سي آر تي” (CRT) في السّبعينيات، حيث أدى استبدال الكتابة الواضحة على الورق بدقة ضبابية لشاشة معرضة للوهج أو ما يسمى بـ”تيلي تيبس غلاس” (teletypes glass) أو “تيلي تايب تيرمنلز” (teletype terminals) أو “دمب تيرمنلز” (dumb terminals) (لأنّ هذه الشّاشات تحتوي على القليل من قوة المعالجة الخاصّة بها أو لا تحتوي عليها إطلاقا).
الخطر الهادئ الذي تأقلمنا مع وجوده
للتفكير في خطر الحواسيب يجب الابتعاد عن التفكير في التكنولوجيا والتفكير بدلا من ذلك بالجسم، فالمخاطر هنا أكثر هدوءا ويصعب تتبعها، فلا يمكن تتبع تاريخ الاعتياد والروتين والاستخدام والعمل، فهذا الألم في رقبتك والتنميل في أصابعك له تاريخ أكثر انتشارا وتأثيرا من أي تكنولوجيا حديثة ظهرت، حيث لا يوجد جهاز تقني واحد غيّر العالم، لكن ألم الحاسوب غيرنا جميعا.
ونشرت مجلة “هيومان فاكتورز” (Human Factors) في عام 1981 عددا كاملا مخصصا لقضية تأثير أجهزة الحاسوب في مكان العمل، وذلك قبل 16 شهرا فقط من إعلان مجلة “تايم” (Time) عن جهاز الكمبيوتر الشخصي لعام 1982، مشيرة إلى أن “عدد العمال المستخدمين لأجهزة العرض الطرفية كبيرة وتتزايد بسرعة “، (اُستخدم طوال هذه الدراسة مصطلح “محطة عرض الفيديو” أو “VDT” كمرادف لما نسميه اليوم شاشة الحاسوب)، وذلك قبل الثمانينيات، حيث لم تكن محطات الحوسبة منتشرة على نطاق واسع.
وأجرى الباحثون مقابلات ووزعوا استبيانات على كل من العاملين “المحترفين” و”الكتابيين” في العديد من الشركات، وذلك لإجراء تحليلهم، حيث استُخدمت شاشات الحواسيب، كما أجرى الباحثون مقابلات ووزعوا الاستبيان نفسه على العمال الذين شاركوا في نفس النوع من العمل.
ووجد الباحثون عند تحليل بياناتهم أن “مستخدمي شاشات الحاسوب الكتابيين أظهروا مستويات أعلى بكثير من الشكاوى الصحية البصرية والعضلية الهيكلية، بالإضافة إلى مستويات ضغط وظيفية أعلى مما أظهره الأشخاص الخاضعون للتحكم والمهنيون الذين يستخدمون شاشات الحاسوب”، حيث ارتفعت نسبة الشكاوى بين العاملين الكتابيين المتمركزين في محطات الحاسوب في كل فئة من الشكاوى الصحية بدءا من الإغماء إلى آلام المعدة والضغط على الرقبة ووصولا إلى تقلصات اليد، وغالبا ما يتضاعف العدد 3 أو 4 مرات.
أصبح منذ ذلك اليوم استخدام الحاسوب محددا بأجهزة “سطح المكتب”، واُتخذت الوضعيات الجسديّة التي نقوم بها حتى اليوم وهي الانحناء المستمرّ للمعصم فوق لوحة المفاتيح والتّحديق والمراقبة، ثمّ بعد ذلك دفع الفأرة، ومع انتشار كل من أجهزة الحاسوب المكتبية والمحطات الطرفية المتصلة بالشبكة في المكاتب والمدارس والمنازل خلال الثمانينيات أصبح الألم المزمن هو الطبيعي، حيث ازداد ألم المعصم ومشاكل الرؤية وألم الظهر بشكل كبير.وهو مصطلح أصبح الآن مرادفا لما يعنيه استخدام جهاز الحاسوب للتنقل بين التطبيقات وجذب الانتباه من أولوية إلى أخرى، وهي الحركة السلسة على ما يبدو التي ننخرط فيها الآن بين حياتنا الشخصية والمهنية من خلال استخدام الهواتف الذكية.
ومع العلم أن مصطلح تعدد المهام كان في يوم من الأيام (ثمانينيات القرن الـ20 الماضي) مصطلح تقني توصف به الحواسيب الشخصية التي كان من المفترض أن تخفف علينا عبء تعدد المهام وتجعلنا أكثر راحة وقدرة على الاستمتاع بصحتنا وحياتنا.
لذا في المرة القادمة التي تشعر فيها بـ “عيون متعبة” أو وخز في الرّسغين أو تشنجات في الرقبة؛ تذكر أن وظيفة التكنولوجيا لم تكن أبدا لجعل حياتنا أسهل، ولكن فقط لتعقيدها بطرق جديدة، فالألم المرتبط بالحاسوب والجهود المذهلة التي بذلها البشر (وما زالوا) للتخفيف من حدّتها وإدارتها والتفاوض بشأنها يجب أن توفر لنا فهما أفضل لنتائجها السلبية على صحتنا وأجسادنا وراحتنا النفسية خصوصا عند ظهور تقنيات أحدث وربما أخطر.
“تيكست نيك” مرض جديد سببه التكنولوجيا
ولم يتوقف خطر التكنولوجيا على الحواسيب، حيث مع ظهور مرض “تيكست نيك” (text neck) كمرض شائع جديد في عام 2015 ووصف بوباء عالمي في أكثر من موقع على محرك البحث غوغل، ويدخل الهاتف الذكي حليفا للحواسيب في حربها ضد أجسادنا المنهكة.
حيث يُعتبر الانتباه الزائد والمستمر -الذي نوليه لهواتفنا الذكية- أحدث معركة في حربنا الطويلة بين صحتنا النفسية والعاطفية والتكنولوجيا، فوضعية إمالة الرأس هي مؤشر على عبء تعدد المهام الذي بدأت أجسادنا تعانيه.
إدارة الألم كان الحل الوحيد
يعني الحفاظ على الحوسبة مربحة إيجاد طرق للتّخفيف والتّفاوض ومعالجة الشكاوى المتزايدة من الألم الجسدي من مستخدميها؛ وبذلك بدأ المتخصصون في بيئة العمل وموظفو الموارد البشرية والصحة البدنية -منذ منتصف الثمانينيات- في تحويل انتباههم إلى اضرار استخدام الحاسوب المكتبي.
وتتطلب العديد من التدخلات التي طُلب منا تبنيها منذ أن نتحمل المسؤولية عن رفاهيتنا الجسدية، في الوقت الذي يجب فيه ألا نصبح عبئا على مكان العمل أو نخفض إنتاجيتنا، كما يجب علينا ممارسة التمارين في المكتب أو خارجه.