الشيخ الحبيب العالم
حسين العبود
الشيخ الحبيب العالم ..(سيرة مختصرة للحزن)
هي المرة الأولى التي تعيش فيها الأجيال الحالية في بلدتنا فراقاً لعالم جليل من علمائها الأجلاء مثل الأستاذ المربي الشيخ حبيب الصعيليك ، فمنذ رحيل العلامة الفقيه الشاعر الشيخ عبدالكريم الممتن عام 1956م، مذاك لم تذق الأجيال اللاحقة مرارة فقد العالم ..
رحيل الأستاذ الشيخ الحبيب مُـرٌّ جداً ..العالم حيٌّ بيننا لحظة الموت المحتمل للضمير ، أو تضاؤل العطاء ، أو ضمور العلاقة بالله ..كثيرون هم التلاميذ و المقربون الذين أحيا في نفوسهم *الشيخ الحبيب الهمة و النشاط و المعرفة، و بأساليب تربوية متنوعة ..
انتماؤه لجيل صبور و رسالي ، وقد ظل حاملاً رسالته طيلة عقود من الزمن ..
سأبدأ مع :
الهمة:
أعرض عن وظيفته في شركة أرامكو ملتحقاً بالدرس العلمي الحوزوي ، قرار أضاء له الكثير من معارف أهل البيت عليهم السلام ..
النشاط:
الشيخ الحبيبلا تجده يفتر عما أوكل إليه من عمل أو مشاركة ، في شبابه وفتوته يتقدم العزاء والحفل ، و يؤسس مع أترابه البرنامج و المشروع ..
المعرفة:
بدءاً من ثمانيات القرن المنصرم انطلق مع جيله الوفي مؤسسين الدراسة الدينية والأخلاقية في المساجد والحسينيات ، متولين تربية الناشئة والفتيان ، ثم التحاقهم بالدرس الحوزوي الصيفي الذي شارك في تنظيمه ..
وإذا تسنى لك أن تشاهد التعليقات التي يدونها الشيخ في حواشي كتبه العلمية ستعرف مقداراً من مثابرته في تحصيل العلوم الدينية ، فمجلسه الذي ضم خيرة الشباب يطل على مكتبته و حصنه الخاص بتحضير دروسه ، وإذا طال مكوث الشبان الضيوف في المجلس تراه يرسل نظرة بعينه الحريصة الفاحصة نحو ساعة الحائط ، فتفهم حينها أن لديه مباحثةً غداً مع تلامذته أو أساتذته في الحوزة ..
الشيخ لديه نبوغ في الفهم ألحظه في بريق عينيه حين يتلقى السؤال مني ، وحين يتشتت الكلام في مجلسه وتقبل عليه بسؤالك يتحول الحال بين السائل والمسؤول إلى مناجاة بالرغم من ضجيج المجلس ، وكان يرمق من حوله حين لا يصغون للجواب ، و صادف أن استأذن منا ليلج إلى مكتبته جالباً الكتاب الذي يحمل الإجابة ، فيقرأ لنا مفيداً و مستفيضاً ..
اسمحوا لي ما ارتويت من الحديث عن ذلك ، مفجع أن نصمت ونغفل عن علمية الشيخ بمقدار فجيعة رحيله، حسناً كلنا نعرف دوره الفاعل في مشاريع التزويج والشعائر والأيتام ،
لكن هل أبوح لكم بحادثة ؟
دخلت منزل الشيخ عصر أحد الأيام وشاهدته يصنع سبورة خشبية كبيرة متقنة ، اكتشفت بعد يومين أنه صنعها لأحد الشباب في المرحلة المتوسطة ، و ظل الشاب يستخدم السبورة مليئة بالشروحات لسنوات ( نحو / رياضيات / كيمياء / فيزياء / منطق / أحياء ) في غرفته يمارس عليها دور المعلم الذي أصبح أحد أستاذة الحوزة فيما بعد ، وقد احتفظتُ بالسبورة لاحقاً ..
هو خطيب حسيني أليس كذلك ؟
لكن ليتكم جربتم مذاق الحضور لديه حين يشرح لك الدرس ، كان أستاذاً مرغوباً في التحلق حوله ، يجيد مدارسة النصوص النحوية والبلاغية ،
وخلاصة كل درس هي التالي :
أنت صديق و أخ قبل أن تكون تلميذاً ..
هل تعرفون ما سبب هذا الانطباع ؟
الابتسامة وظرافة الشرح ..
سأكمل الباقي في قسم التربية ، تكتب عنه وأنت مضطرب مرتجف من أن لا يعود مرة أخرى إلى بلدته ومحرابه و درسه ..
التربية:
ما الذي يجعل الشيخ حبيب مربياً؟
أحياناً نكتفي بالنتائج و الثمار ، فنرى أبناءه وآثار ترتبيته عليهم فنتأكد بأنه المربي الفاضل ..
الرجل الحبيب قادم من بيئة تعتني بصناعة الجيل ، العقد الأول بينك و بينه هو العمل لصالح الشأن العام غالباً ، فهذا الإنسان الأستاذ يعتني بالنتيجة العملية التي يتقبلها ويستفيد منها المجتمع في أي طرح تقدمه له ..
مثال :
تولى الشيخ مراجعة المجلات المنشورة آنذاك ، ومما أبهجني جمالية ملحوظاته التي تربط ما بين العبارة و التربية ، كتبت له قصة قصيرة ، وبعد مراجعتها طلب مني إعادة كتابتها ، وبعد المراجعة الأخيرة تبينت لي ذائقته ورأيه في أن يكون الحدث داخل القصة مدهشاً وذا رسالة مؤثرة في النفس معاً ، وابتسامته الهانئة و تحريك بعض شعرات لحيته المباركة كان كافياً للتدليل على جودة عملك. قصائد العزاء للرواديد تجد طريقها إليه ، يقرؤها لهم ، ويضع النبر الملائم للمصاب على الكلمات ، فيتهيأ الرادود للقراءة الصحيحة و التأثر كذلك ..
الحبيب والقرآن :
قل من يعرف بأن الشيخ أستاذ في تجويد القرآن الكريم ، وما كان ذلك كذلك إلا لأنه اعتنى بكتاب الله ، وقد لجأ إليه بعض المعلمين والموظفين لتصحيح قراءتهم عليه ..
وليختبر محبيه من الشبان كان يطلب منهم في مجلسه قراءة كلمة قرآنية ليصححها لهم ..
فضلاً عن الختمة القرآنية الرمضانية السنوية التي كان يقرؤها بنفسه في مجلسه العامر ..
وكان ينقل للشباب بعض النكات القرآنية البلاغية ليقطع الأثر غير المفيد للتجمع واللقاء..
إن هذا النوع من الفقد والرحيل ممض للتجربة ، وما ينبغي التأكيد عليه الآن وقبل ارتحال قلوبنا معه إلى مثواه *هو السيرة العلمية والمعرفية للشيخ الحبيب* ،
الاعتناء بإظهارها بات واجباً بعد أن طالها التقصير منا ..
إنك قائم بين أضالعي بعلمك ، ورب الحسين ما ارتحلت إلا جسداً ، العالم منكم مقيم في الجبيل بالبصيرة بيننا ، فلا سبيل إلى تكريم العالم الجبيلي إلا بأن ندعه يظهر لنا علمه وبصيرته ، عطفه وعنايته بالناس ..
شيخنا فائض الألم والشجى أخل باتزان الشعور ، وأقض الحلم
رحيلك نشيد كما كان تدريبك للأشبال نشيد ..
رحيلك متقن
كما هو بقاؤك متقن ..
كنتُ و الأصدقاء نعد العدة لتكريمك في حفل عام ، فأكرمتنا بالوداع ..
رحيلك يجيب على سؤال ماضٍ :
ماذا كنت تصنع قبل موتك ؟
بكيت الحسين وأبكيت عليه و كفى في ذلك مأثرة وحسن عقبى ..
*كل ملازم للشيخ لديه حكاية أسمى مما ذكرت و كتبت ..