الأربعين .. المشهد الخالد
علي الوباري
ولائي أعبر به الوديان على ضوء اشتياقي لك حتى أشم رائحة ترابك. أهجر المأوى إلى موقعٍ باقٍ للخلود، أحثُّ الخطى وأترك آثار قدميَ في درب طويل لعل غيري يهتدي إلى دربي لقبلتك، فأحظى بأجر الماشي إلى مثواك.
أستنشق أنفاساً محركةً لجسمي من العشق النابت في لحمي قبل ميلادي، جربت كلَّ أنواع الحب فلم أتذوقْ حلاوةً إلا بالقرب من مثواك.
فتحت كلَّ نوافذ تجلياتك بالحزن والبكاء فتمددَ أملي بين مصرعك وحضرتك الثابتة الباقية في زمن تغيرت فيه اتجاهات الأماكن! حضرتك ثابتة وآثارها تمتد مع الزمن، باقية تستقبل القريب والبعيد ليأنس ببريقها.
وميض نداءاتك مسموعة، مناظر الوافدين والمستقبلين ملأت العيون، وصدى ندائك ما يزال مسموعاً.
أضواء القبة والمنارات تشع للمشاية.
حملت همومي أرتجي تضحياتك بالأمل والفرج.
الإنسان بعصر أدوات التواصل الاجتماعي يعيش عزلة اختيارية، اختفى العمل الجماعي وزادت الأصوات للعمل عن بُعد بواسطة الأجهزة الذكية والتكنولوجية الرقمية.
الإحساس الجماعي بالحدث تجربة جميلة وممتعة، أن تمارس الفعل المستحب جماعياً مع الآخر في زمن الشبكة العنكبوتية لتكسر المشاعر الفردانية وتعود لروح الجماعة، التعاون الجماعي بين الناس سبب التطور والتقدم البشري، وفي الحركة نمو وحياة وتعمير للأرض وإصلاح للنفوس.
مقامك هو الذي بقي شامخاً صامداً يجذب الجماهير الهادفة بخطواتها التي تحمل رسالة الرغبة في الأجر والثواب. الحشود التي تمشي بعنوان مقدس تتأثر بمضمون العنوان وشعائره، فيدخلون في هوية الجماعة التي لها خصائص متوافقة وقلوب متآلفة تشكلت عبر ثقافة خطاب منبري متراكم لمئات السنين.
توقفت الحشود في زمن جائحة كورونا إلا لمزارك تهرول إليه النفوس قبل الأجساد، تذوب فيه الهويات الفردية وتتشكل بهوية المُشاة الجماعية الأربعينية المستمدة من مبادئ دينية وقيم سماوية، شعار السعي التضحية والمشي للتزود بمَعين الشهادة.
نَسَقُ حركاتهم موحدٌ، روابطها الولاء والحب والعشق، الطرق والشوارع مسرح يؤدي فيه المشاة دوراً واحداً نحو هدف واحد بقيادة رائد الإصلاح في أمة جده، مجموعات تعرف هدفها وتسعى إليه بسلام وأمان تشكل قوة بفهمها لرسالة القائد وليس ممارسة التنويم المغناطيسي بالجماهير كما يقول جوستاف لوبون، تعالج نقاط ضعفها بنقاط قوة من تصاحبه وتلازمه، يتعزز الفرد الواعي بالوعي الجمعي، يتكاتف الكلُّ ليمثلَ كيانًا واحدًا تذوب فيه خصائص الفرد في روح الجماعة لأنها الأقوى، يتجاوز الشخص قوى الأنانية من أجل المصلحة العامة، يتجرد من أنانيته عندما يرى أفرادَ الجماعة تتضامن ويؤثرون بعضهم على بعض.
بُني التعليم على الجمع في صف واحد يتخاطب التلميذ مع زملائه ويتعلم منهم كيف يرفع مستواه التعليمي، التدريب يصبح أسهل مع الجماعة التي تتدرب على نسق موحد ونظام معين، هذه جماهير الرياضة تشجع بعضها بالنهوض بفرقها وبرياضيها فيكون صوتها واحد وأقوى، لماذا النقد الموجه للمُشاة عندما يتساوون في طريق واحدة نحو هدف معروف يعيشون قيمه بعقولهم وقلوبهم، وتتعزز علاقاتهم بالولاء والحب.
ما يلفت النظر بفريضة الحج هي الجموع في أداء الصلوات بمكان واحد، وطواف جماعي مهيب، والسعي بين اتجاهين، الذهاب نحو رمي الجمرات فيه هيبة ويشكل قوة سلمية واحدة نحو نبذ العنف وعدم سيطرة الشيطان.
من الخطأ تحليل كل سلوك الجماهير حسب ما فسره وحلله جوستاف لوبون بعلم النفس الاجتماعي، أنها مسيرة تاريخ واحد ورسالة دينية سماوية لها مبادؤها وقيمها المؤثرة في الجمع، فمدخلات التربية الدينية والتعليمية والثقافية مختلفة، حين تختلف أهداف الجماهير يتغير التصرف فالسلوك مبني على المعرفة والنصوص الدينية التي تحث على التعاون والعيش بسلام وأمان مع الغير. وعندما يشتد الانتماء للحشد يزداد إحساسهم بالأمان لأنهم محاطون بأشخاص محبين وداعمين، وهذه إحدى نتائج دراسة الدكتور هاني النابلسي في رسالته للدكتوراه بجامعة ساسكس عام ٢٠١٥م في دراسة عن الحج وانتهى في دراسته إلي “أن الحج ظاهرة ثقافية كونية لها أبعاد إنسانية خفية” تزيد التعاون وإحساس الأمان بين حشود الحجاج.
هوية الجماعة مختلفة عندما ترى التنظيم والتطوع والتعاون والإيثار والعمل الجماعي المنسّق الساعي لهدف مقدس يتخلله أداء عبادات واجبة كالصلوات وشعائر مستحبة، لا هويات قاتلة ولا أعراق ولا قوميات تدعوا للعصبية حين تؤدي دوراً واحداً لجهة مقصودة تمثل رمزاً وقائداً يحمل صفات يدعو للوحدة والإصلاح ونبذ الكراهية وما يزال المشهد يتحدث بجمالياته والمتلقي ينظر إليه بهيبة واحترام سواء اتفق معه أو اختلف.