توقيع كتابين عن الشيخ باقر بوخمسين
علي الوباري
عندما نكتب عن شخصية ما، لا بد أن أن نقرأ ونكتب عن بيئة نشأته، وملامح تلك البيئة من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية حتى نحكم على شخصيته ورسالته وأدواره مقارنة بالشخصيات المشابهه، وما قدمه مختلفاً عنهم، وما تميز به عن أقرانه، وبقاء عطاء شخصيته واستدامتها حسب معاني الحديث النبوي “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ مـن ثلاث صدقة جارية أو كتب علم يُنتفع بها أو ولد صالح يدعو له”.
كتابة السير والتراجم مطلوبة خصوصاً لهؤلاء الذين لديهم آثار علمية وأدبية وعطاء خيري وتنموي، لأن إيثار الشخص هي قيمة دينية مستحبة واختيارية يقدمها رجل البر والعلم للمجتمع بمحض إرادته، فإذا مات المضحي المعطي تحول هذا العطاء العلمي والخيري والتضحية إلى دين اجتماعي يرد عليه بالثناء والشكر والذكر الطيب والتوثيق.
شخصية سماحة الشيخ باقر موسى بوخمسين التي حظيت بالكتابة أكثر من غيرها سواء كانت مقالات أو كتب بسبب تفردها بخصائص معينة اعتبرت امتيازاً لآثاره العلمية والادبية ولدوره في الإصلاح الاجتماعي. ومن الذين كتبوا عنه الشيخ محمد الحرز، والاستاذ علي عساكر، والشيخ الدكتور محمد الخرس، وهؤلاء الكتاب أساتذة نتعلم منهم، وما كتبوه أعمق وأوسع من أن نعلق عليه، إضافة إلى ما كتبته أقلام أخرى من أسرته، ومن المقربين له اثناء الدراسة بالنجف الأشرف أو بعد عودته منها.
كتاب الأستاذ علي عساكر (الشيخ باقر بوخمسين العالم الأديب المثقف) وكتاب الشيخ الدكتور محمد الخرس (الشيخ باقر بوخمسين وأدب المقالة والأستاذ أحمد الزيات) حظيا بحفل توقيع واستحقت الشخصية المؤلف عنها ما ذكره المؤلفان المبدعان.
حسب قراءتي من الكتابين، بذلا جهداً طويلاً وعميقاً من قبل المؤلفين في شخصية دينية تجاوزت دور الداعية والشيخ المهتم بشئون الدين والمجتمع الذي اهتم بالشعر والأدب والصحافة بالرغم أنه ترعرع في بيئة ثقافية لم تعتاد الصحافة الأدبية والمختصة المكتوبة قبل هجرته للدراسة بالنجف الأشرف عام ١٣٤٨هـ،١٩٢٩م.
إن تسليط الضوء بشكل مختصر على الواقع الثقافي ولا سيما عن تاريخ الصحافة المكتوبة وتحديداً الأدبية التي تعد متأخرة نسبياً عن دول عربية مثل مصر ولبنان والعراق وسوريا، ما يهمنا في شخصية سماحة الشيخ باقر بوخمسين الشخصية الحوزوية الذي تقلد منصب القاضي في المحكمة الشيعية بالأحساء، الذي تميز في الكتابة الأدبية واهتم بالصحافة واعتبرها إحدى الوسائل المؤثرة في توصيل الرسائل الدينية والاجتماعية والثقافية، فأبدع بالكتابة الأدبية الصحافية ولا سيما بالمقالة الأدبية والقصة بذلك الزمن المعروف بالمحافظة الشديدة بدليل أن غالبية من كتب بالصحف والمجلات من الطلبة والشيوخ النجفيين كتبوا بأسماء مستعارة. سماحة الشيخ باقر من هؤلاء الذي استشرف المستقبل بالاهتمام بالمجلات العلمية والصحف والدوريات المختصة، هذه تعد نقلة نوعية في واقع الحوزة العلمية والشيوخ بذلك الوقت، فهو مهاجر من منطقة لم ينضج فيها هذا النوع من الكتابة وهو أدب المقالة والقصة والنصوص النثرية الأدبية الرمزية، تأثر بما رآه من المناخ الثقافي والجو الأدبي المتقدم وتفاعل معه بحيث آمن بأن الصحافة وسيلة اتصال فعالة في زمن استقلال الدول العربية، وفي عهد التيارات الفكرية التي تنقل بواسطة المجلات والجرائد.
المناخ الأدبي والثقافي الذي خرج منه سماحة الشيخ وبالذات حركة الصحافة الأدبية المكتوبة هذه لم تتضح معالمها في بيئة مولده ونشأته قبل السفر للدراسة بالنجف الأشرف عندما سافر من الأحساء وله من العمر ١٢ سنة بحسب ما ذكره الدكتور محمد الخرس والأستاذ علي عساكر.
الصحافة الأدبية لم تظهر في المنطقة الشرقية بل في دول الخليج العربي، فكانت أول صحيفة هي الحجاز تصدر بمكة من عام١٩٠٨م قبل التوحيد، وأم القرى عام ١٩٢٤م، وجريدة صوت الحجاز ( البلاد) عام ١٩٣١م، وكلها صحف تهتم بالشؤون العامة، أما المجلة النوعية التي تهتم بالثقافة والأدب فهي مجلة المنهل مؤسسها عبدالقدوس الأنصاري تأسست عام ١٣٤٨هـ (١٩٣٣م) وصدر اول عدد سنة ١٣٥٥هـ-١٩٣٦م.
وبعدها مجلة اليمامة أسسها المؤرخ الكبير حمد الجاسر بالرياض صدرت عام ١٣٧٢هـ(١٩٥٣م)، أما الصحافة بالمنطقة الشرقية، فصدرت بالدمام جريدة أخبار الظهران على يد عبدالكريم الجهيمان عام ١٩٥٤م، وقبلها جريدة خاصة (القافلة) من أرامكو سنة ١٩٥٣م، أما في الخبر فصدرت مجلة الإشعاع عام ١٩٥٥م وهي شهرية أدبية صاحبها سعد البواردي.
وفي الكويت صدرت أول جريدة عام ١٩٢٨م بعنوان (الكويت)، أما في دولة البحرين التي تعد متقدمة ثقافياً وأدبياً فصدرت منها جريدة (أخبار البحرين) عام ١٩٣٩م لصاحبها عبدالله المعاودة والدولتان قريبتان من الأحساء والزيارات متبادلة بينهما بكثرة.
أما الحركة الأدبية وتحديداً بالقصة القصيرة فصدرت أول مجموعة قصصية للأستاذ أحمد عبدالغفور عطار عام ١٩٤٦م بعنوان “أريد أن أرى الله”.
أما بخصوص الصحافة المختصة فتعد مجلة المنهل أول مجلة أدبية ثقافية شهرية تهتم بالأدب والثقافة لأن صاحبها أديب ومثقف وتميز صاحبها بالكتابة الأدبية.
من الاستعراض الموجز عن الصحافة الوطنية التي صدرت بالمملكة ودول الخليج خصوصاً القريبة يتبين لنا أن الصحافة الأدبية ( مجلة المنهل) صدرت والشيخ باقر رحمه الله في العراق، هذا البلد المعروف بصحافته وشعراءه وكتابه في كل أنواع الأدب من القصة إلى المقال الأدبي، فنقل الأستاذ علي عساكر بكتابه بصفحة ١٣٨ ما قاله حيدر محلاتي” لم تزل النجف في جميع أدوارها التاريخية حافلة بمشاهير الشعراء وكبار الأدباء والعلماء…”.
سافر الشيخ باقر من الأحساء عام ١٩٢٩م وله من العمر ١٢ سنة، بمعنى أنه لم يعش في جو صحافي أدبي مختص بمسقط رأسه، فانتقاله إلى العراق حرك شيئاً في داخله، وهي الهواية التلقائية: الأدب واهتمامه بالصحافة الأدبية بكتابة المقال الأدبي والقصة وكتابة القصائد، تأثر بصحافة العراق وكتابها والصحافة المصرية وحركتها الثقافية التي كانت متقدمة عن غيرها في الصحافة والأدب بأنواعه.
وكما ذكر الشيخ الدكتور محمد الخرس نقلاً عن الدكتور عبدالهادي الفضلي تأثر الشيخ باقر بكتابات أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الذي عاش بالعراق ٣ سنوات وهي فترة تواجد الشيخ باقر بوخمسين بالنجف.
مع أن العراق في تلك الفترة متقدم إعلامياً خصوصاً بالصحافة، ومنها النجف الأشرف التي كانت تزخر بالمكتبات، فإذا كانت هذه المدينة الدينية الثقافية تخرج عالم وفيلسوف ومفكر الشيخ عبدالكريم الزنجاني (١٣٠٨-١٣٩٨) صاحب القصة المشهورة مع عميد الأدب العربي طه حسين، نشر مقالاته بالصحف والمجلات العراقية، ويكفي أن نذكر مجلة (الغري) الذي أسسها شيخ العراقيين عبدالرضا آل كاشف الغطاء عام ١٩٣٩م نشرت ١٢٨ مقالاً ادبياً و ٥٤ قصة واستمرت بالإصدار حتى عام ١٩٦٨م بالإصدار توقفت بموت صاحبها، النجف الأشرف احتضنت شعراء أمثال محمد رضا الشبيبي الذي تفاعل مع حدث مأساوي عالمي وهو غرق سفينة تيتانك عام ١٩١٢م بقصيدة رائعة:
بأبيك أقسم يا ابنـة البحر الذي واراك كيف رأيت فتك أبيــكِ، ومؤشرات الحراك الثقافي في النجف أن أحد أصدقاء الشيخ باقر بوخمسين، وهو الشيخ باقر شريف القرشي الذي كتب “العمل وحقوق العامل في الإسلام” وهذا المؤلف تفاعل مع نظام العمل والعمال العالمي.
كل هذه دلائل على تفاعل أدباء وعلماء النجف بالأحداث العالمية،كما نقل الأستاذ عساكر بكتابه صفحة ١٤٩ عن الدكتور عبدالرزاق محي الدين أن النهضة الأدبية أول ما انبثقت في العراق وفي النجف من خلال السيد جعفر الحلي.
هذا المناخ الأدبي الثقافي حرك في الشيخ باقر حبه للأدب ليكون له موقعاً بين كبار الكتاب والأدباء وصوتاً إعلامياً بوسيلة إعلامية غير مألوفة بمسقط رأسه، وهذا يدل على نبوغه وإبداعه في شأن مكمل لرسالته التي هاجر من أجلها. ومن يقرأ عناوين بعض كتبه وإصداراته يتعرف على اهتمامه بالثقافة العامة والأدبية وبغيرته على الدين، ومتفاعل مع ما ينشر بالوطن العربي والرد عليه مثل كتابيه ” أثر التشيع في الأدب العربي” رداً على الكيلاني، وكتاب بعنوان “لماذا نقدس القرآن” وهذا رد على بعض الشبهات المثارة بتلك الفترة، إضافة إلى دراسته الحوزوية ونشاطاته الثقافية والاجتماعية بالنجف الاشرف.
الشخصية التي تتجاوز حدود ثقافة بيئة ميلاده ونشأته أراد أن يكون له تميز في بيئة الأدب والثقافة بإصدار مجلة الندوة عام ١٩٥١م في بلد غير وطنه، خصوصاً بمجتمع له ثقافته الدينية المحافظة (النجف) يرى الاهتمام بغير الدروس الحوزوية غير مقبول وخروج عن الأعراف. هذا ما أكده من درس بالنجف، بعض الحوزويين لا يتجرأ أن يشتري الجريدة علناً أو يكتب بصحيفة باسمه الحقيقي.
العمل على تأسيس مجلة لتكون وسيلة إبلاغ وجذب للشباب وللمثقفين في زمن الصحافة المزدهرة بلبنان وسوريا ومصر، هذا هو الإبداع الذي اختلف عن سابقيه من أهل المنطقة الذين ذهبوا للنجف الأشرف طلباً للدراسة الحوزوية، عاد إلى أرض الوطن ١٣٧٥ هجري (١٩٥٦م)في تأسيس الصحافة العامة والأدبية والمختصة المحلية وازدهارها.
سماحة الشيخ باقر رحمه الله يحمل خبرة بالصحافة الأدبية، مارس أنواع الكتابة الإبداعية، منها: المقال الادبي والقصة وننقل مقاطع من قصة (في الربيع) الذي نقلها الدكتور محمد الخرس بكتابه صفحة ٨٦، ومن يقرأ هذه القصة يعرف أن الشيخ لديه ذوق أدبي وحس مرهف وصاحب جملة رمزية معبرة وعبارة أدبية راقية ومنها:
وعند الأصيل حينما تلقي الشمس ثوباً من النظار المذاب على أطراف الأعشاب وأعالي الأشجار…
وبمقطع آخر
لماذا لا تبسمين؟ ألا يبعث الابتهاج إلى قلبك هذا المنظر الساحر ويطلق نفسك من أسر التقاليد والعادات ويرسلها في جو مخصب بالحرية، فلا قيد هنا يا عزيزتي الغالية…
ماذا لو استمر الاهتمام بأدب المقالة والقصة القصيرة والرواية وكتابة المسرحيات فهذه الأصناف الأدبية كانت مزدهرة بالعراق لو تم نقلها إلى الأحساء بشكل منظم لتضاعف عدد كتاب المقالات المختصة وظهرت أسماء بالقصة القصيرة والرواية والمسرح خصوصاً أن ذاك الزمن بداية الابتعاث للدراسة بالخارج بواسطة شركة أرامكو ومن الجهات الحكومية، وأيضاً اتصال إداري ومؤسساتي وتفاعل ثقافي مع جنسيات متعددة من الذين عملوا بالسعودية مهندسين وفنيين، ومعلمين، وأطباء من الدول العربية ومن أمريكا وأوروبا محملين بثقافات بلدانهم المتنوعة عملوا بشركة أرامكو وهيئة الري والصرف.