هل ستحررنا الربوتات من عبودية العمل؟
بشائر: الدمام
لنتخيل عالما لا عمل فيه، عالما لا تحتاج فيه إلى أن تصحو في الصباح الباكر، وتغادر بيتك إلى الشركة أو المؤسسة التي تعمل بها لمدة 8 ساعات كل يوم… لنتصور عالما لن يضطر فيه البشر للركض وراء لقمة الخبز وأساسيات الحياة، عالما ستقوم فيه الروبوتات والذكاء الاصطناعي بكل الأعمال ليتفرغ البشر للتمتع بالحياة والقيام بالأشياء التي طالما حلموا بتوفير الوقت اللازم للقيام بها.
هذا ممكن تماما مع الثورة الصناعية الرابعة، ولكن قبل الوصول إلى “الجنة الموعودة” هناك طريق طويلة من المعاناة والشكوك والأسئلة، فقد خلقت كل ثورة صناعية سابقة حالة من عدم اليقين حول مستقبل البشر، في مجال العمل بالذات. نعم، تطور البشر على مدى مئات الآلاف من السنين ليصبح العمل جزءا أساسيا من حياتهم وهوياتهم.
أفلام هوليود مجرد خيال متشائم
وتطورت المجتمعات كذلك وبالذات حول مفاهيم العلاقة بين البشر وعملهم. وتبدو فكرة مخيفة أن تأخذ التكنولوجيا مكان الناس في العمل، وقد ابتكر مؤلفو هوليود مشاهد مروعة للمستقبل حيث يتقاتل البشر والآلات ضد بعضهم بعضا من أجل البقاء، ولكن التقنية خلقت من أجل راحة ورفاهية البشر، وكل اختراع جديد على مدى التاريخ أدى الى تطور البشر وتحقيق الرخاء لهم، منذ اكتشاف النار حتى اختراع الكهرباء وشبكة الإنترنت.
وقد خلقت كل ثورة صناعية سابقة وظائف ومهنا وصناعات جديدة حلت محل الوظائف والمهن والصناعات المستبدلة تقنيا. ومع ذلك، فإن هناك العديد من الأسباب الوجيهة للاعتقاد بأن الثورة الصناعية الرابعة -التي تحددها الأتمتة والذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم الآلي- لن تتبع مسارا مشابها للثورات السابقة.
فمن المتوقع على نطاق واسع أن الوظائف والمهن الجديدة التي ستخلقها الثورة الصناعية الرابعة ستكون أقل بكثير من المهن والوظائف التي ستقضي عليها، والتنبؤات الأكثر عدوانية تعطي البشر احتمالا بنسبة 50 إلى 50 لاستبدال جميع الأعمال البشرية بالتكنولوجيا قبل حلول عام 2050.
الآلات ستقوم بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر عام 2050
عام 2017، أصدرت مجموعة من الباحثين في جامعتي “أوكسفورد” البريطانية و”ييل” الأميركية دراسة مشتركة بُنيت على استطلاع آراء 352 من خبراء “التعلم الآلي” (Machine Learning) و”الذكاء الاصطناعي” (Artificial Intelligence)، وخرجت الدراسة بنتيجة أنه من المحتمل بنسبة 50% أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري في المجالات كافة خلال 45 عاما من الآن.
وحسب دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي تداولتها وكالات الأنباء مؤخرا، سيرتفع معدل “الاعتماد على الآلات” (Automation) في أنواع الوظائف كافة إلى 52% بحلول عام 2025.
وتوصلت الدراسة إلى أن الروبوتات ستقضي على نحو 85 مليون وظيفة في الشركات المتوسطة والكبيرة الحجم خلال السنوات الخمس القادمة.
ومن المتوقع على نطاق واسع أن الآلات ستقوم بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر الآن بحلول عام 2050، حيث ستهيمن التكنولوجيا على سوق العمل مع انتشار الذكاء الاصطناعي والمساعدين الأذكياء، وسيزداد استخدام الواقعين الافتراضي والمعزز في العمل، وسيكون كل شيء “ذكيًا” متصلا وقائما على البيانات. أما الوظائف التي سيعمل بها البشر في ذلك الوقت، فإن أغلبها إن لم يكن كلها لم يتم اختراعها بعد، لكن سيكون الذكاء العاطفي والمهارات “البشرية” مثل القدرة على التعلم الدائم أمرا بالغ الأهمية، بالإضافة إلى الطلاقة التامة في استخدام أحدث التقنيات، وذلك كما ذكرت منصة “كاسبرسكي” (Kaspersky) مؤخرا.
وسواء تم الاستغناء عن البشر تماما في العمل، أو استمروا فيه جزئيا، فإن التطورات التكنولوجية حول الأتمتة والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي ستفيد الشركات والعملاء بطرق لا تعد ولا تحصى.
الروبوتات أقل تكلفة وأكثر كفاءة
ويعود سبب تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة والاستغناء عن البشر في العمل إلى عاملين أساسيين وهما: التكلفة والكفاءة. وبكل بساطة، فإن الوظائف التي تتطلب مهاما متكررة وحركات جسدية معادة، بالإضافة إلى الوظائف التي تتطلب القليل من اتخاذ قرارات مستقلة في أثناء العمل، يمكن إكمالها بشكل أكثر كفاءة بواسطة الروبوتات والآلات، وبتكلفة أقل بكثير من الموظفين البشريين.
كما ترتكب الآلات أخطاء أقل من البشر، ولا تحتاج إلى فترات راحة أو إجازات، ويمكنها تلبية معايير الجودة نفسها أو أعلى من تلك التي ينتجها البشر في هذه الوظائف. وهذا يعني أن الشركات ستقلل من التكاليف التي كانت تدفعها إضافة إلى تحقيق زيادة في الإنتاج وبجودة أفضل، وطبعا سيستفيد الزبائن والعملاء من منتجات عالية الجودة، وبسعر أقل، كما ذكرت مؤخرا منصة “أيريش تك نيوز” (irishtechnews).
وقد بدأنا نشاهد هذا بالفعل في العديد من المهن والصناعات التحويلية، فعلى سبيل المثال، تعمل الروبوتات الموجودة في خط التجميع على إنتاج سيارات عالية الجودة، وبتكلفة أقل مقارنة بأعمال البشر. وتقدم العديد من المطاعم والمتاجر والصيدليات في الصين -بالفعل- منتجات وخدمات ذات جودة عالية باستخدام الآلات بدلا من البشر.
ونظرا لأن الشركات تكتسب كفاءات في إنتاج الخدمات والسلع من خلال استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، فإن هذه الشركات تخلق المزيد من القيمة السوقية لها. وسوف ينمو الاقتصاد ما دامت الشركات والمستهلكون مستمرين في شراء السلع والخدمات.
ويجب على المجتمعات أن تتكيف مع التغيرات في كيفية عمل الشركات، وأن تستفيد من التطورات التكنولوجية المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة، وقد جلب وباء كورونا بعدا آخر للنقاش حول كيف ستفيد التكنولوجيا الشركات والموظفين والعملاء. وفي الواقع، فقد أظهرت عمليات الإغلاق وحظر التجول والحد من التواصل الاجتماعي بين الأصدقاء والعائلات أن البشر لا يتطلبون تفاعلا اجتماعيا فحسب، بل يزدهرون في ظل التفاعل الاجتماعي.
تكامل لا صراع بين البشر والآلات
وبالنسبة للشركات، فإن هذا يفتح فرصا جديدة للانخراط مع فارق إستراتيجي بسيط عن طريق الإجابة عن السؤال التالي: ما المنتجات والخدمات التي يمكن للآلات إكمالها أفضل من البشر بطرق تضيف قيمة إلى قطاعات معينة من السوق؟ وعلى العكس من ذلك، ما المنتجات والخدمات التي يمكن للبشر إكمالها أفضل من الآلات بطرق تضيف قيمة مماثلة لشرائح معينة من السوق؟
وعلينا ألا نفكر في أن الثورة الصناعية الرابعة ستخلق انقساما أو صراعا بين البشر والآلات. بدلا من ذلك، فإنها ستخلق نوعا من التكامل بين البشر والآلات، وهو تكامل سيكون مفيدا للبشرية وإلى أبعد حد.
ونظرا لأن الآلات ستحل محل البشر بشكل متزايد، فسوف تستفيد الشركات وقطاع الأعمال من هذه التطورات التكنولوجية للثورة الصناعية الرابعة بطريقة أخرى غير متوقعة، حيث سيصبح لدى هذه الشركات فرصة حقيقة لإطلاق العنان لإبداع هؤلاء البشر للمساعدة في حل المشكلات أو ابتكار أشياء جديدة تفيد العمل.
عالم مختلف ونهضة جديدة من الإبداع البشري
ولنتخيل معا عالماً لم يعد فيه البشر بحاجة إلى العمل ليعيشوا حياة مريحة ويمكنهم بدلاً من ذلك السماح لعواطفهم واهتماماتهم وإبداعاتهم بتوجيه أنشطتهم اليومية. فبدلا من القلق بشأن وظيفة خالية من المرح تجلب فقط إلى المنزل ما يكفي من الدخل لدفع تكاليف أساسيات الحياة، يمكن للناس متابعة الأنشطة التي تجلب لهم السعادة الحقيقية التي طالما حلموا بها.
وسيجد الأشخاص الذين لديهم ميولا فنية وقتا للرسم، وآخرون ممن لديهم ميولا أدبية سيجدون وقتا لكتابة الرواية التي طالما حلموا بها، وقد تجتمع مجموعات من البشر الذين لديهم أفكار متشابهة لمناقشة الأفكار الكبيرة، هكذا يُصنع الفلاسفة.
وربما كان التقدم التكنولوجي الذي خلقته الثورة الصناعية الرابعة هو الذي سيسمح بنهضة جديدة من الإبداع البشري. هي مفارقة، ولكن كلما زاد اعتمادنا على التكنولوجيا أصبحنا أكثر إنسانية.
ولكن ينبغي ألا نخدع أنفسنا بالتفكير في أن هذه التحولات ستحدث بسهولة وسلاسة. وينبغي لنا ألا نفترض أنها ستحدث بشكل موحد في مختلف دول العالم… سيحدث الكثير من عدم المساواة داخل المجتمعات إذا لم تتعامل الحكومات والدول مع التعقيدات والآثار المترتبة على حلول التكنولوجيا مكان البشر في العمل.
وكما هو الحال مع كثير من الحالات عبر تاريخ البشرية، فإن التكنولوجيا نفسها ليست هي المشكلة، بل على العكس تعمل التكنولوجيا دائمًا على تحسين حياة الإنسان. ولكن المشكلة هي في الطريقة التي نستخدم بها نحن البشر التكنولوجيا، وفي الحقيقة فإن الثورة الصناعية الرابعة ستكون نعمة كبرى تنقل البشرية لمستوى آخر من الرفاهية والازدهار لم تحلم به من قبل، بشرط أن نحسن التعامل معها عبر توزيع عادل للثروة التي ستخلقها هذه الثورة.