كيف تحاصرنا وسائل التواصل الاجتماعي؟
بشائر: الدمام
ترتفع أصوات كثيرة حول العالم بأن شبكة الإنترنت قد تحاصر حياتنا مع الاهتمام المتصاعد بوسائل التواصل الاجتماعي فيها. وهذا الاستنتاج صحيح، ولكن الخلاف يدور بين فريقين، الأول يعتقد أن الإنترنت غيرت حياتنا نحو الأسوأ، لأنها تتعدى على خصوصياتنا ولأنها تسبب الإدمان والاكتئاب ولأنها تراقبنا كيفما التفتنا، وتؤثر في العلاقات الأسرية والاجتماعية فتفككها ليعيش كل فرد في فقاعته داخل العالم الافتراضي. الفريق الثاني يقول ما يناقض هذا الاستنتاج، إن شبكة الإنترنت طورت حياتنا وسهلتها وسمحت بالتواصل مع أقاربنا بشكل أكبر، وعرفتنا على أصدقاء جدد من حول العالم، وبأنها قربت الثقافات من بعضها، وبأن تعلق الأجيال الجديدة بشبكة الإنترنت هو أمر حتمي يشبه أجيال الراديو والتلفزيون، ومن ثم الكمبيوتر ومن بعده الهاتف المحمول. وبرأي المتفائلين فإنه لا يمكن فك الارتباط بشبكة الإنترنت وإلا سنصبح خارج مسيرة العالم.
هل وسائل التواصل حتمية تاريخية؟
كلا الفريقين على حق في القول إن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي تحول من كونها وسيلة ترفيهية إلى جزء من جوانب حياتنا اليومية.
لكن النقاش لم ينتهِ بعد إلى نتيجة، بل وباتت وسائل التواصل ملاحقة من قبل الحكومات التي تتهمها بالاحتكار من جهة، وباستخدام بيانات العملاء من دون وجه حق، عدا أنها شبكات يستحيل ضبطها ومراقبتها. وواجه “فيسبوك” شكوكاً في شهادته أمام اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ الأميركي، بشأن الميزانية والعملة المشفرة المقترحة والنظام المالي البديل. ووقعت مشادة كبيرة بين مديري “ميتا” ودول أوروبية عدة على رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، قررت فرض ضرائب جديدة على هذه الشركة، فهددها صاحب الشركة بقطع “إنستغرام” و”فيسبوك” عن أوروبا، بشكل واضح وصريح. وهذا التهديد يوضح مدى قوة هذه الشركات في مواجهة الحكومات. فالمعركة بينهما على الجمهور، والجمهور مع وسائل التواصل بكل تأكيد، إذ إن أصغر “جمهورية” افتراضية تضم ما لا يقل عن ثلاثة مليارات مشترك، يمضون فيها وقتاً أكثر مما يمضونه في حياتهم الواقعية خلال اليوم. ثم كانت شهادة إحدى المديرات السابقات في شركة “فيسبوك” أمام لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي، لتعلن عن الأخطار المحدقة بالأجيال الجديدة بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وقد نقلت شهادتها عبر وسائل الإعلام حول العالم.
مثالان آخران أكثر بساطة لتأثير وسائل التواصل في حياتنا الفردية، فقد قامت إدارة شرطة فيلادلفيا بإنهاء التعاقد مع أكثر من عشرة ضباط في الولاية نتيجة تعليقاتهم العنصرية على وسائل التواصل الاجتماعي. فحتى الرأي الشخصي تجاه أمر ما نعلنه على وسائل التواصل بات يتسبب في نتائج ليست افتراضية على حياتنا. وفي روسيا مثلاً، تقوم مجموعة من المتطوعين المقربين من الكنيسة بملاحقة صفحات المعلمين والمعلمات في المدارس على شبكة الإنترنت، ومن يعلن منهم بوضوح ميوله الجنسية المثلية مثلاً، أو يضع صوراً في سهرة صاخبة، فإن هؤلاء الشباب يقدمون طلبات لوزارة التربية الروسية لفصلهم من عملهم، وقد تم فصل عشرات الأساتذة حتى الآن. ومبرر هؤلاء أن المعلمين والمعلمات يجب أن يكونوا قدوة لتلاميذهم على وسائل التواصل وفي داخل الصف.
هذه أمثلة على قدرة وسائل التواصل على كشف حياتنا الشخصية أمام الجميع، ولكن من ناحية ثانية يقول آخرون إن المراقبة هذه نفسها تسمح للشرطة بتوقيف مجرمين كثر على سبيل المثال، تصورهم كاميرات المارة وهم يرتكبون جريمتهم من أي نوع كانت. ففي مصر مثلاً، تم إلقاء القبض على عصابات كثيرة من المتحرشين والمغتصبين تم كشفهم بواسطة هواتفهم وصفحاتهم التواصلية. وأبرز مثال على ذلك حين تم إلقاء القبض ومحاكمة المشاركين في الهجوم على مبنى الكابيتول قبيل إعلان فوز بايدن وهزيمة ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، استناداً إلى الفيديوهات التي التقطوها لأنفسهم خلال الاجتياح وبعد دخول المكاتب. فكانت الفيديوهات التي صنعوها بأنفسهم سبباً لا يقبل الجدل لإدانتهم.
سنصبح جزءاً من الإنترنت
رجل الأعمال المثير للجدل إيلون ماسك، ذهب بالموضوع حتى مرحلة متقدمة، حين أشار إلى أنه ستتم إزالة المسافة بين وسائل التواصل الاجتماعي وسنستخدمها في وقت ما في المستقبل عبر الزرع في شرائح كمبيوترية، أما “الميتافيرس” التي يطلقها مارك زوكربيرغ، فهي بحد ذاتها عالم متوازٍ بكامل تفاصيله، وبل وقد عبر بعض علماء الاجتماع بقلق أن “الميتافيرس” ستحول الفصام الاجتماعي إلى أمر طبيعي، كأن يملك الشخص نفسه شخصية واقعية وأخرى داخل “الميتافيرس” قد تكون مختلفة ومتناقضة حتى مع شخصيته الحقيقية. والأكثر تشاؤماً يخافون من أن تتحول “الميتافيرس” نفسها إلى عالم حقيقي، حين نمضي داخلها ساعات أكثر مما نمضيه خارجها. وهذا ما كان التوقع بالنسبة إلى شبكات التواصل الاجتماعي قبل أن يتأكد بالفعل في ما بعد، حين بات أكثر من نصف مستخدمي هذه الشبكة يمضون الجزء الأكبر من ساعات نهارهم داخلها. وفي حادثة مثيرة للتعجب، رفعت سيدة فرنسية دعوى قضائية ضد “الميتافيرس”، لأن شخصيتها هناك تعرضت لاغتصاب جماعي بمجرد دخولها إلى هذا العالم. وهذا بحد ذاته نقاش واسع في أوروبا والولايات المتحدة لا مجال لعرضه هنا.
وسائل التواصل الاجتماعي في اتفاق جميع دارسي الحياة الافتراضية من علماء نفس واجتماع وتقنية واقتصاد وسياسة، تستمر في التطور بسرعة هائلة، ما يجعل من الصعب التنبؤ بالطريقة التي ستتحول بها بعد في كل مرحلة. مثلاً في عام 2006، كان لدى شبكة “فيسبوك” 7.3 مليون مستخدم مسجل. في الربع الأول من عام 2019، ضمت الشركة 2.38 مليار مستخدم نشط، مع رسملة سوقية تفوق نصف تريليون دولار، وبعد سنتين فقط زاد عدد المستخدمين عن المليارات الثلاثة بقيمة سوقية تفوق التريليون دولار بكثير. الأمر نفسه ينطبق على التطبيقات الأخرى مثل “تويتر” و”تيك توك” و”إنستغرام” وغيرها.
ويقول كيفين ويرباخ، أستاذ الدراسات القانونية وأخلاقيات العمل، “قبل عشر سنوات فقط، لم أعتقد أن هناك من شخص توقع أن يصبح فيسبوك ضخماً ومسيطراً للدرجة التي وصل إليها اليوم. في تلك المرحلة، كان هذا نقاشاً مثيراً للاهتمام حول الشركات التقنية الناشئة، ولكن من دون أدنى تقدير أننا سنصل إلى هذا الحجم الضخم لعالمها كله”. يضيف ويرباخ “اليوم فيسبوك هو أحد كبرى الشركات قيمة على وجه الأرض، ولكن ليس هذا هو الأمر الأهم، بل إنه يحتل موقع الصدارة في مجموعة كاملة من نقاشات السياسة العامة في كل دول العالم، بل ووحد جماعات سياسية وفنية وبيئية من مجتمعات مختلفة تحمل الأهداف نفسها ولم تكن لتلتقي من دونه”. ويمكن الإضافة على تحليل ويرباخ بأن وسائل التواصل كانت سبباً دافعاً ومساعداً لثورات الربيع العربي وكذلك الثورة الخضراء في إيران، بل وعلى الانتخابات الرئاسية الأميركية في الدورتين السابقتين بين ترمب وكلينتون ثم ترمب وبايدن، حتى أن وسائل التواصل مثل “تويتر” و”فيسبوك” تمكنت من منع رئيس الولايات المتحدة الأميركية من التعبير عن رأيه عبرها. لقد تمكنت هذه الوسائل من التحكم في الرئيس نفسه، الذي من المفترض أنه يدير العالم.
فقدان الإرادة الحرة
أحد المعلقين البارزين حول التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي جارون لانيير، الذي تظهر معارضته الشديدة في عنوان كتابه الصادر عام 2018 “عشرة أسباب لحذف حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعي… في هذه اللحظة”. وبرأيه أنه في عالم وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت يحدث فقدان الإرادة الحرة، وتآكل الحقيقة، وتدمير التعاطف، وجعل الناس غير سعداء كما هو واضح مع جيلين أو ثلاثة من المراهقين المعاصرين. الكاتب الأميركي لانيير هو موسيقي وفنان وعمل في مركز مهم في “مايكروسوفت”، ولا يمثل أصحاب “البارانويا” من نظريات المؤامرة حول إدارة العالم، وهو أحد مؤسسي شركة الواقع الافتراضي الرائدةVPL Research ، لكن ما اتضح له هو أن الشعور بالقلق الذي تجلبه الإنترنت على المستخدمين “مثل النفط الخام لشركات التواصل الاجتماعي وغيرها من إمبراطوريات التلاعب بالسلوك التي سرعان ما هيمنت على الإنترنت، لأنها غذت ردود فعل سلوكية سلبية”.
بدأ كثيرون في الاعتقاد بأن التحدي الأكبر حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون في الطريقة التي تغير بها المجتمع. كتب أستاذ العلوم السياسية في جامعة تورنتو رونالد ديبرت في مقال نشر في المجلة في يناير (كانون الثاني)، أن “الخوارزميات الجاذبة للانتباه الكامنة وراء وسائل التواصل الاجتماعي تدفع بالممارسات الاستبدادية التي تهدف إلى زرع الارتباك والجهل والتحيز والفوضى، وبالتالي تسهيل التلاعب وتقويض المساءلة الديمقراطية”
ويقول بيرغر “كل شخص هو شركة إعلامية خاصة به، ينتمي لمجموعة معينة من الأشخاص الذين يتابعونه. اعتاد أن يكون هذا التوقيع الرئيس للعلامة التجارية هو الطريق إلى النجومية. الآن يمكن للفنانين بناء متابعيهم عبر الإنترنت، ومن المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الشهرة والاهتمام أكثر ديمقراطية، وإن لم يكن ذلك دائماً بطريقة جيدة”.