أقلام

غسان.. مواقف وقيم

طالب المطاوعة

رحمك الله يا أبا مصطفى رحمة الأبرار.

هكذا عرفته وعايشته:
تاجر مخاطر(لا يهاب التجربة).

رحل عن هذه الدنيا الفانية رجل الأعمال غسان بن عبدالله النمر.
سليل تلك الأسرة الكريمة المعروفة برجال أعمالها الكبار، وذات الثقل المالي والاجتماعي والديني. رحل وخلّف وراءه قلوبًا حرى تجمعها وإياه مواقف وأحداث كبيرة، وجلسات حلوة ومرة، ومنعطفات لا تعد ولا تحصى.

نعم قد لا تكون السنوات الخاصة التي تعرفت فيها على الراحل بحساب الزمن كثيرة، وإن كانت معرفتي العامة به قد تطول إلى حدود خمس وعشرين عامًا.
ولكن تلك السنوات الخاصة والعميقة منها قليلة، كنت فيها قريب جداً منه وخصوصًا فترة إدارة حملته الانتخابية بالغرفة التجارية.

ولعلي أستطيع أن أقرأ بعض ملامح شخصيته الفذة إن لم تخني الذاكرة.

أولًا: التأكد والاستطلاع

كانت البداية عند خروجنا من مناسبة في بيت ابن عمه الوجيه الكبير رجل الأعمال حسين العبدالله النمر (بو علي)، إذ بدأ بالسلام علي وطلب الحديث معي بموضوع خاص، حيث كنت أعرفه مسبقًا، ولكن لم تكن بيننا علاقة شخصية.
فأخذ يسألني ويسألني عن الانتخابات ومفهومها وأهميتها، وبادلته أطراف الحديث حول فلسفتها، وماذا تعني الغرفة التجارية في نظري؟، وكنّا وقوفًا بالشارع عند سيارته، وطال بنا الحديث لساعات، وإذا أخذ به التعب من كثرة الوقوف يجلس فوق صندوق سيارته.

وكان في حينها يفكر بالدخول في انتخابات الغرفة التجارية بالمنطقة الشرقية، ولعلّ الحديث كان مشعًا ومحفّزًا أكثر، فقرر الدخول بالانتخابات وحسم أمره، وارتأى أن أكون مدير حملته.

ومن باب الأمانة نسقت مع إحدى الجهات المختصة بالانتخابات كوني حديث عهد بإدارتها ولم أدرها إلا مرة واحدة من قبل، وإن كانت ثرية جدًا، إلا أنه بعد مضي حدود الشهرين أصرّ علي بأن أكمل الأمر من جهتي، وأنه واثق بقدراتي وإمكاناتي، وعليّ أن أحل عقد الشركة المختصة.
ومنها بدأت بيننا الاتصالات والجلسات المطوّلة والنزهات والجلسات المشتركة.

وأخذنا نتبادل أطراف الحديث في موضوعات متفرقة، حتى تأصلت العلاقة وتعمّقت بيننا، وأخذ يولني اهتمامًا خاصًا وكبيرًا حد الثقة التامة.

وهنا محطة الوقوف الثانية والرئيسة:

أنّ أبا مصطفى إذا وثق وثق، فلا يتردد قيد أنملة في أن يفوّضك روحه وماله وكل مايملك.
ودليلي على ذلك منها ما كان أثناء فترة الانتخابات.
إذ كان لدي من فريق العمل مجموعة من الأخوات الإداريات بمصنع الكوثر النسائي للذهب والمجوهرات، وكما يعرف أهل الصنف حساسية دخول الأشخاص إلى داخل المصنع لما يحويه من سبائك ومجوهرات تمثل ذخيرته ورأس ماله.
وكان المرحوم قد أعطى توجيهاته لمدير المصنع بالسماح لي بالدخول والخروج دون تفتيش ولا حتى استئذان، وكان يقول لهم هذا غسّان.

وكذا في الاجتماعات التي تضم أعضاء القائمة، التي لا يحضرها إلا المرشّحون، دون مدراء الحملات لباقي المرشحين، كان يأخذني بيده ويجلسني بجانبه، في إشارة منه أن فلان هو من يمثلني في اتخاذ القرارات الخاصة بالمرشحين. الأمر الذي جعل من باقي أعضاء القائمة يولوني اهتمامًا خاصًا جدًا، كل ذلك كان بسبب تشخيصه وتقديره هو.

الثالثة: انتصاره للحقيقة. أثناء العمل، حدث أن ذهب إلى مكتبه أحد العاملين معنا ليشي إليه بمعلومات غير صحيحة.
وكان الكلام مريبًا جدًا، مما اضطره أن يرسل ابن عمه علي النمر ليتفحّص الخبر ويتحسسه. وعندما بانت له الحقيقة الناصعة انزعج إلى الحد الذي أراد أن ينتصر لي وفي العلن بمرأى الجميع. فما إن رأى وشاهد الواشي يريد السلام عليه حتى نهره وزجره بصوت عال مزمجرًا، ما اضطرني في الحال أن أطلب منه أن يخفف من غضبه وغلوائه، واضططرت أن آخد بيد الواشي وأذهب به لقاعة الطاعم وأطيب خاطره.
فانظر كيف انتصر للمظلوم دون تردد.

الرابعة: الاستشارة
مع مايملكه المرحوم من خبرات وتجارب جمّة إلا أنه لا يستنكف من السؤال والاستنارة برأي الآخرين.
وأذكر هنا عندما عرضت عليه المشاركة والمساهمة في أحد المشروعات التعليمية بالمنطقة، عرض علي الأمر وطلب مني إبداء الرأي.

الخامسة: التواضع
لا يتعالى ولا يتردد ولا يأبى بأن يأكل الحمّص والفول مع الفقراء بقارعة الطريق.
فلقد وجدت من السهل عليه الجلوس مع أي كان ومشاركتهم رغيف الخبز ولقمة العيش.

السادسة: تبسطه وعدم التعقيدات
فلقد كنّا إحدى السنوات بالحج معًا، وأثناء النفرة من عرفات إلى مزدلفة كنّا بسيارة مكشوفة، ومن التعب كنّا نضع أرجلنا فوق بعضها ممددة أثناء القعود. وإذا به يقول “وين رجلي أبي أحكها” فأخذ الجميع بالضحك لكون الأمر حقيقة لا يعرف أحدنا قدمه من قدم الآخر.

السابعة: طموحه.
كل من تعرّف على المرحوم يعرف أن طموحه بلا سقف يحده.
وأخذ بنا الحديث ذات مرة للكلام عن هذه النقطة في شخصيته وحياته.
وخرجت منها بأنه يتعامل مع المال كلعبة تستهويه (لعبته المفضلة)، فهو لا يحصل عليه ولا يستثمر فيه برغبة في داخله لجمعه وتوسيع إمبراطوريته بقدر ما كان يعشق التجربة حد المخاطرة دون أدنى تردد. وكنّا في حينها نقارب الصورة بالشاعر الكبير جاسم الصحيح، وأنه كيف يكتب الشعر عشقًا، لأنه يستهويه ويجد نفسه فيه، لا أن يقال عنه شاعرا.
وذكر لي بأنه ذات مرة خسر كل مالديه من أموال بسبب المخاطرة، حتى كتب الله له أن يستعيد عافيته التجارية بأضعاف مضاعفة.

الثامنة: التميّز.
من ذلك تسجيل اسم شركة غسان للذهب والمجوهرات اسمًا تجاريًا. فكان له ما أراد.
وكذا عقده مؤتمراً إعلامياً لأول مرة يقيمه رجل أعمال بمناسبة افتتاح مصنع الكوثر النسائي للذهب، كأول مصنع تعمل فيه النساء على مستوى المملكة ودعم صندوق الموارد البشرية.

التاسعة: التقدير والاحترام
قبل اثني عشرة سنة من هذه الأيام. حدث أن وقعت وأصبت بكسور وأسعفت على أثرها للمستشفى.
وأنا بالطوارئ وقبل أن ينتشر الخبر ويعرف بالأمر أحد من غير أهلي وإذا بي أراه واقفًا عند رأسي ويتابع حالتي مع الأطباء وأحد الأصدقاء الخاصين جداً.
ولسبب وآخر تم التقدير بإسعافي للأحساء لإجراء العملية هناك مستعجلًا، وكان هناك تعثّر في توافر سيارة الإسعاف من قبل المستشفى، فبادرت الاتصال بإدارة إحدى المستشفيات الأهلية لمعرفتنا أنا وإياه بهم فاعتذروا، فانزعج من تصرفي وقال لي (احنا نوفّر الإسعاف بأي ثمن) وما أن انتهيت من العملية بمستشفى الملك فهد بالأحساء إلا ويدخل علي رسول من قبله يحمل هدية ثمينة للسلامة.

العاشرة: قلبه الكبير . قبل ثلاث سنوات، مر هو بحالة صحية صعبة، وكانت لدي مناسبة عزيزة علي، فدعوته من باب المحبة بيننا أدبًا لا أن أكلّف عليه بالحضور، وكنت أتوقع عدم مجيئه. وفاجأني بتواجده مع مابه من مرض صعب، فقلت له لماذا كلّفت على حالك؟ فرد علي لم يطاوعني قلبي، كل ذلك تقديرًا منه لمحبيه.

الحادية عشر: مزاجه الجميل
عندما تم تعيينه بعضوية مجلس الغرفة التجارية، أنهالت عليه التبريكات من الكثير للمباركة، وعندما يتصل عليه أحد من فريق الماكينة الانتخابية أو المعارف المشتركين بيننا، كان يوجههم ويطلب منهم الاتصال علي وتقديم التباريك لي.

الثانية عشر: سخاؤه وكرمه
كنّا ذات يوم مجتمعين بمجلس أحد الأحبة، وبحضور مجموعة من رجال الخير للمساهمة ودعم أحد المشاريع الاجتماعية. وحدث أن افتتح أحدهم المساهمة بعشرة آلاف ريال، وأخذ باقي رجال الخير بدفع نفس المبلغ أو نصفه رفعًا للحرج فيما بينهم، وكان المشروع يحتاج مساهمة أكبر من كل منهم، فغمزني ومن ثم همس بأذني قائلا لا عليك، وما أن انتهينا من المساهمات حتى قال لي وباقي المبلغ علي (وكان ضعف مادفعه الجميع).
ولن أتكلم عن كثرة مساهماته الاجتماعية والوطنية التي تملأ كل الأركان، لأن المقال لا يتسعها.

الثالثة عشر: ذكاؤه وفطنته
كان حاد الذكاء، يلتقط المعلومة ويستثمرها في الحال ويحولها إلى مشروع.
ولا أستبعد أنّ بعض شركاته ومؤسساته كانت نتيجة معلومة التقطها من هنا وهناك.

الرابعة عشر: شبكة علاقاته
تكاد لا تعرف لغسان بداية ولا نهاية من معارفه ومحبيه ومريديه، من كل أطياف المجتمع، ابتداء من أفراد أسرته وعائلته الكريمة، وليس انتهاء بالمسؤلين وباقي أفراد مجتمعه ووطنه من رجال أعمال وغيرهم من بدو وحضر، ولا أدل على ذلك من كثرة الحشود الغفيرة التي حضرت تشييعه ودفنه.

غسان رحمه الله تعالى موسوعة ومدرسة تحتاج لدراسة وتوغل وسبر في أعماقه ومواقفه.
ولو فتح الباب لكتابة مبادراته وسرد مواقفه لمعارفه ومحبيه، لسجّل منها كتابًا من القطع الكبير.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى