المعركة حول صحيح البخاري: منهج البحث في نقد كتب الحديث
عبدالهادي الفضلي*
قد تُقابل إثارة الأحاديث ذات التَّساؤل حول قضايا الدِّين وما يرتبط بها من ملابسات وشؤون بشيء من القبول أو بشيء من الرَّفض.
غير أن كلا الحالين (القبول أو الرفض) لا يعنيان أمرًا ذا بال ما لم تكن الإثارة ذات هدف ومثمرة، تكشف عن واقع القضية التي دار الحديث حولها فيفيد منها الباحث ذاته، ويفيد منها القارئ.
وهذا اللَّون من الإثارة يتطلَّب ـ بطبيعته ـ مخطَّطًا سليمًا يعتمد ركيزتين أساسيتين هما: المنهجية والموضوعية:
وأعني بالمنهجية ـ هنا ـ اعتماد البحث على استيعاب الفكرة بمختلف شؤونها وأطرافها، وقيامه على أسس وقواعد علمية منطقية تتمشَّى والحقل المعرفي لتلك الفكرة ومجالها العلمي.
وأعني بالموضوعية ـ هنا ـ اعتماد الباحث استهداف الصواب وواقع الأمر دونما ميل أو تأثّر براسبة خاصة لديه تجره إلى هنا أو هناك.
والبعثرة في المعلومات وعدم التنظيم مما يبعد عن المنهجية في البحث.
فالمثقف ثقافة عامَّة فقط لا يقوى على نقد مسألة علمية يفرض نقدها الاختصاص في ذلك العلم الذي احتوى المسألة أو على الأقل الدراسة لذلك العلم دراسة وافية.
وكذلك الذهنية الخاصة التي تعيش إطارًا خاصًا من التفكير لا تستطيع الانفلات منه ما يبعده عن الموضوعية.
فالعالِم المتعصِّب لفكرة معيَّنة تعصّبًا فرض صحَّتها عليه فرضًا لا يقوى على النَّقد؛لأنَّ ذاتيّته لابد وأن تبرز على المسرح، وبالآخرة تأتي النتائج بعيدة عن الواقع قليلًا أو كثيرًا.
ومن أقرب ما قرأته من هذا اللَّون ما أثير من حديث حول (صحيح البخاري) في مجلتي (العربي) و(الوعي الإسلامي).
غير أنَّي لاحظت أن النَّقد الذي أثير في مجلة العربي جوابًا للسؤال لم يكن منهجيًا، وذلك أنَّ الناقد دار حول الموضوع بمعرفته العامة، وليس وفق أصول علمي الحديث والرجال وما فيهما من منطقية تستهدف اكتشاف الواقع واستكناه الأمر.
كما أنّي لاحظت أنَّ الرَّد الذي نُشر في مجلة (الوعي الإسلامي) لم يكن موضوعيًا تمام الموضوعية؛ فقد برز فيه شيء من عنصر الذَّاتية حيث وقف محرِّره موقف المدافع عن آراء مسبقة لديه افترضها مبدئيًا غير قابلة للنقاش فيما يبدو من خلال عبائره.
ولعل المقياس الذي ينبغي في أمثال هذه القضايا هي أن ينتقل البحث في النقاط التالية:
1. وثاقة المؤلِّف:
وأعني بها ـ هنا ـ أن يُدرس المؤلِّف من خلال شخصيته وسيرته في مختلف ظروفهما وملابساتهما، ومن خلال تقييم العلماء المعنيين لشخصيته الدِّينية والعلمية، لينتهي إلى وثاقته أو عدمها.
2. منهج المؤلِّف في التَّأليف وفي العلم الذي يدور حوله:
وذلك لأنَّ دراسة المنهج التَّأليفي للمؤلِّف تُلقى الضوء الكثير على بحوثه ونتائجها، وكذلك دراسة منهجه العلمي حيث يفهم على أساس منها رأيه الخاص فيما يدون ويبحث.
3. أسانيد المؤلِّف:
تُدرس من حيث الاعتبار وعدمه ليُعرف مدى صحة ما ينسبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وعدمها، وذلك على ضوء أصول علم الرجال.
4. مستوى المؤلِّف العلمي في تقييم متون الأحاديث التي ينقلها ويرويها:
ليوقف على توفّرها لشرط موافقتها للقرآن الكريم، ومماشاتها للخطّ العام للشريعة الإسلامية، أو على عدم توفّرها، لينتهي إلى نتيجة مقبولة.
5. رأي المؤلِّف في المتعارضات من الأحاديث التي لا تقبل الجمع والتوفيق بينها كـ (الحديثين المتباينين من جميع الوجوه)، وليسا كـ (العام والخاص، والمطلق والمقيد) وما شاكل:
فيُعرف هل رأيه فقط نقلها وتدوينها وتركوظيفة الجمع والتوفيق إلى العلماء الآخرين، أو أن رأيه اختيار ما يصلح منها للجمع بينها بوجه ما.
في ضوء هذه وأمثالها مما هو مذكور في مظانِّه يقاس واقع كتب الحديث فتقيم بما ينهي إليه المقياس.
وكتاب (البخاري) واحد مما يخضع للمقياس، وكذلك مؤلِّفه الشَّيخ البخاري واحد ممن يرفعه المعيار أو يضعه.
ولا يضير حينما تكون النتيجة أنَّ جميع ما فيه من أحاديث صحيحة ولو بالتأويل المقبول الذي يتمشى وأصول الشريعة.
وكذلك يعيب حينما تكون النتيجة أن في الكتاب ما هو ليس بصحيح سندًا أو متنًا؛ لأنَّالبخاري ليس بمعصوم، وغير عزيز عليه الاشتباه والخطأ.
والراوي إذا كان ثقة ينفي عنه تعمد الخطأ لا الوقوع فيه عن غير عمد.
وتقديس الإنسان ـ أيّ إنسان ـ بصفته مؤمنًا شيء، والتأكد من سلامة ما انتهى إليه من نتائج شيء آخر لا تنافي بينهما ولا تضارب.
والمسؤولية أمام الله وحده، وهو ولي التوفيق ومنه العصمة.
المعركة حول صحيح البخاري: منهج البحث في نقد كتب الحديث
نُشرت في مجلّة النجف، السَّنة الثَّانية، العدد الرابع، صفر، السَّنة 1388هـ/ 1968م.
*فقيه وأكاديمي