تأرجح المعاتيق ما بين بهجة الطفولة والنضوج التراجيدي
محمود المؤمن
الإنسان بطبيعته مفطور على حب الجمال و إن كان الجمال يعتبر نسبياً لأنه متفاوت لدى البشر لكن أغلبيتهم اتفقوا على الحنين للزمن الجميل و إنما سُمي جميلاً لأنه ينعم بالذكريات المفعمة بالدفء و المكتنزة بالسرور وإن خولطت بشيءٍ من الوجعِ و كم تُحلِقُ بنا التفاصيلُ الدقيقةُ لمعالمِ الطفولةِ إلى عالمٍ متَّقدٍ بالذكرياتِ اللذيذةِ ببراءتِها و سذاجتِها و أعلى درجاتِ الفرحِ فيها و أدنى دركاتِ الخوفِ ، ومن هذا المنطلق نجد شاعراً كحبيب المعاتيق مزجَ الضوءَ بالحرفِ في ديوانِهِ (حزمة وجد) و في ديوانهِ الموسوم بــ ( معلقون على الأحداق) تطورَ هذا المزجُ إلى مرحلةِ الاندكاكِ الشعوري ففي كلِّ قصيدةٍ تُشاهِدُ صوراً متحركةً متسلسلةَ الأفكارِ تماماً كما ترى فلماً سينمائياً تم إخراجُهُ باحترافٍ بحيث تتأرجحُ التجربة بين عتبتي البهجةِ الطفولية و النضوج التراجيدي.
العتبة الأولى البهجة الطفولية:-
يعرِّفُ رينيه ديكارت البهجةُ في كتابِهِ “انفعالاتُ النفسِ” بكونها (الحبُ الذي لدينا للأشياءِ الجميلةِ)
ولا يخفى على المتابع لتجربة حبيب عن كثبٍ الزخم الشعوري المتدفق بالفرح و السرور و التفاؤل لا سيما مع إطلالة كل خميس يستدعي ببراعة مفردات السعادة ليدخل بها السرور على القلوب و منها (الورد-الزهور-العصافير-الفراشة-الضحكة-العيد-اللذة-الجمال-العناق)
ولنا أن نتأملُ ثلاثةَ مشاهدٍ في التجربة تنم عن التعلق بحدقة البهجة الطفولية
ففي المشهد الأول :-
هو المتمثل بالتَعلُّقِ بالأم يعيد لنا الذكرى التي لا تكاد تفارقنا بل نراها في حاضرةً في حياتنا ما دام الأطفال يحومون حولنا :
يا أمانَ العالمْ
الطفلُ أنا ما زال يا أمي
إذا أفلَتَ من مِلفَعِكِ البُنيِّ ضاعْ
و إذا عُدتِ من (المولدِ) بالحلوى
عِشتُ يا أمي
تباريحَ (الكتاكيتِ) الجِياعْ
وفي مشهدٍ طفوليٍ آخر:
يُبدعُ في اصطيادِ لحظاتِ اللهو و القهقهةِ العفويةِ ليُسقطَها على الحالةِ العاطفيةِ التي تشي للجلوس على مقعد المرجوحة لملامسة السماء كما كنا نظن كلما حزمنا أمتعتنا للتنزهِ مع الأهل أو الأصدقاء :
يطيرُ بنا الحبُّ
أرجوحةً من حبالِ السعادةِ
ما بين جِذعينِ
في كل جِذعٍ جناحْ
إذا دفعَتنا الأكفُّ نصيحُ من الزهوِ في أوجِ إيقاعِنا
فيَعلَقُ في السعفاتِ التي في الأعالي
بقايا الصياحْ
وفي مشهدٍ ملوَّنٍ ثالثٍ:
يصوّر لنا الحالة الذهبية التي تعتري الأطفال مع تنفس صباحات الأعياد لحصد الأموال مع كل قُبلةٍ تُطبع على جبين الكبار :
بادٍ محياهُ هذا الطفلُ يُعجِبُني
من فرطِ ما جيبُهُ
مما جنى بادي
يقولُ :
أجملُ ما في العيدِ فرحتَنا
إنّ النقودَ بجيبي
محضُ أعدادِ
العتبة الثانية النضوج التراجيدي :-
كما أن للبهجة نصيب من التجربة كذلك الألم له نصيبٌ متكافئ و تظهر مفردات الانكسار جليَّةً و مفضوحةً من البحة الصوتية التي تعتري صوت الشاعر أثناء حديثه و منها (الأسى- الوجع -العذاب- السجن-الغربة-الغياب-الخوف-الألم-التيه) و التراجيديا كما عرَّفها أرسطو هي (محاكاةُ أيَّ حدثٍ يثيرُ انفعالَ الألمِ) عن طريق الشعر نجح المعاتيق نجاحاً باهراً في تجسيد معاناته و التنفيس عن همومه و قد حاول جاهداً التوغلَ في مشاعرِ الآخرين ليُجسِّدَ المعاناةَ الإنسانيةَ الحقيقيةَ بشتى صورِها و لم يذهب جهده هباءً
و قد استعار ألسنة المحيطين به ليعبر عن همهم بقوله :-
ها نحن كونٌ مثقلٌ بالهمِّ
أثقلُ كائنٍ حيٍّ يطيرُ
و لأنه عاش الغربة و ذاق مرارةَ البُعدِ قرابةَ السنتان علَّقَ كل الغرباء بحدقته مترقباً حضورهم :
الغائبونَ
اتَّأدنا عن تأمُلِهم
لو كان هذا الحنينُ المرُّ يتَّئِدُ
و لنا أن نتسائل أي وجدٍ خيَّم على حبيب لدرجةِ أنه يريد أن يعقد صفقةً مع العمرِ و لو تأملنا فحواها لاقشعرت جلودُنا :
هل يقبلُ العمرَ لو كنَّا نُقايضُهُ
سمتَ الكهولِ بضحكاتِ الصِّبا الرَّغِدةْ
و الحقُ يُقال من يقرأُ نصوصَ المعاتيق يَشعرْ بأن الحياةَ تدبُّ فيها و الشاعرية تتقدُ بشكلٍ عفويٍّ في أخيلتِهِ لأنه ببساطة يقدم رؤيته للواقع الإنساني بطريقة أكثر تأثيراً و إمتاعاً و هذا سرُ الانجذابِ الذي يتمتعُ بهِ ، فلا عجبَ أن تُطوَّعُ الكلماتُ لمن أخلصَ لتجربتهِ ،فعندما ينغمر في موقف انفعالي تنثال فيه المعاني لتشكل ألواناً مكتنزةً بالإبداع.