لا تقلل من شأن التشاؤم – فهو جانب من الطبيعة البشرية
بقلم إجناسيو مويا
المترجم: عدنان أحمد الحاجي
يأتي موضوع الكاتب المترجم أدناه في سياق الإضاءة على مسألة التشاؤم بنفس فلسفي عميق، محاولاً طرح بعض النماذج الفلسفية التي قدمت التشاؤم أو القلق كجزء أصيل من طبيعة الكينونة البشرية،ولعلني أتفهم دوافع الكاتب في تطرقه لهكذا موضوع، ففكر الكاتب الفلسفي لا يتسق مع تناول أي موضوع بشكل يكتفي فيه بتقديم نصائح أو تعليمات من أجل تجاوزه إلى غير رجعة، وبشكل لا يتسق مع لغة الفكر الفلسفي بمختلف أطروحاته في سبر أغوار ما يثوي في بواطن الإنسان كعالم مصغر.
ومع أنني ألتقي مع الكاتب في التصور العام للموضوع وفي أهميته، إلا أن التحدي أمام الكاتب سيتمثل في مدى هضم القارئ لطرحه ، خاصةً وأن المقال يتطرق إلى مفاهيم محورية كالقلق في فلسفة سارتر، أو كالتشاؤم في فلسفة شوبنهاور من دون إيضاح للأفكار الكبرى التي أسست لهذه المفاهيم ، وجعلت منها تلعب أدواراً محورية في تلك الفلسفات .
ولعلني أقدم للموضوع بومضتين تعين على استنطاق ما أراد الكاتب الانتهاء إليه، وخاصة فيما يرتبط بموضوع التشاؤم، وتشاؤم شوبنهاور بشكل مخصوص. إن التشاؤم الذي توّلد لدى شوبنهاور ونظّر فيه يمكن أن نفهمه كحصيلة لمجموعة عوامل من أهمها: نبذه للتصور السائد عن العقل ، وتأثره بالفلسفة الكانطية.
أما بالنسبة لتصوره عن العقل فلم يتعاطَ معه كسلطة أولى، أو كجوهر للإنسان باعتباره حيواناً مفكراً كما تم التسالم عليه من قبل الكثير من الفلاسفة، بل تعاطى معه كقشرة سطحية يحيى تحتها عالم من الرغبات والميول والغرائز والتي أسماها بـ إرادة الحياة، هذه الإرادة تعاطى معها كقوة حيوية مكافحة ملحة وفاعلة تلقائياً في دفع وتوجيه العقل لاتخاذ قراره لا العكس، وكأنه يومئ بتحليله العميق إلى القول؛ “نحن لا نريد شيئاً لأننا وجدنا له أسباباً، ولكن وجدنا له أسباباً لأننا نريده “.
إضافة لما سبق، فلتشاؤمه جذر كانطي يصعب فهمه من دون الإشارة إليه، لقد تأثر شوبنهاور بكانط، بتمييز كانط للعالم إلى عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها؛ ففرّق في فلسفته بين العالم كتمثل (عالم الظواهر) والعالم كإرادة (عالم الحقائق) . باختصار، كأنه أراد أن يحفر في منشأ تشاؤم الإنسان، وكأنه انتهى مما سبق كله إلى أن الإنسان لا يدرك العالم الذي يحيى فيه إلا من خلال ما يتمثل لذاته، إلا من خلال مايعاينه ببصره، وما يتحسسه بيده وما إلى ذلك من المحسوسات الأخرى ….. ، تلك المحسوسات التي ستنتظم في ذهنه كخلاصة ومعاني ، لا كما هي عليه في الواقع ، ولا حتى فقط بمفعول حصري من بعض المقولات الترسندنتالية التي ذهب إليها كانط؛ وإنما بمفعول أساسي من مجموعة الرغبات والأحزان والآلام والآمال التي تنساب فيه، وتشكل في مجملها له إرادة الحياة، ثم تجعل من العقل مطواعاً لها في تفسير العالم بما قد لا يكون عليه.
الموضوع المترجم
في المجتمع الحالي، يعتبر الشعور بالسعادة والتفاؤل من التوقعات الاجتماعية التي تؤثر بشكل كبير في اسلوب عيشنا وخياراتتا التي نتخذها.
أشار بعض علماء النفس إلى كيف تطورت السعادة إلى صناعة. في المقابل، أوجدت هذا الصناعة ما أسميه بحتمية السعادة، وهي التوقع الاجتماعي بأن علينا أن نتطلع جميعًا إلى السعادة ونطمح لها. لكن التوقع الاجتماعي يمكن أن يكون عقبة في طريق السعادة. لهذا السبب، بصفتي باحثًا في التشاؤم الفلسفي، أتساءل ما إذا أردنا بالفعل أن نعيش حياة أفضل مما كنا نعيش، فإن التشاؤم يعتبر منظومة (مذهب فلسفي) يمكن أن يساعدنا في تحقيق هذه الغاية.
على الرغم من أن التشاؤم بالمعنى النفسي هو نزعة للتركيز على النتائج السيئة، فإن التشاؤم بالمعنى الفلسفي لا يتعلق أساسًا بالنتائج، بل هو مذهب يهدف إلى شرح أصول المعاناة وانتشارها ووجودها المطلق.
حتى لو تبنيتُ موقفًا متفائلًا وإيجابيًا تجاه الحياة (وبالتالي، لا أكونُ متشائمًا من الناحية النفسية)، لكني سأبقى متشائمًا من الناحية الفلسفية لأنني سأستمر في الاعتقاد بأن الوجود مليء بالمعاناة بشكل عام.
القلق هو المحور؟
يُنظر أحيانًا إلى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على أنه فيلسوف كئيب يتعامل مع القلق الوجودي والرهبة والموضوعات الكئيبة بشكل عام. لقد اتسم أيضًا بالتشاؤم، لكن هذا يرجع إلى حد كبير إلى عدم فهم أعماله.
في عام 1945، أراد سارتر تبديد هذه الانطباعات الخاطئة. وفي محاضرة عامة بعنوان الوجودية هي مذهب إنساني، جادل بأن الوجودية، كما فُهمت بشكل ملائم، هي فلسفة عن الحرية وتحملنا للمسؤولية عن خياراتنا التي نتخذها والحياة التي نعيشها ونتصرف فيها. نحن أحرار – أو من الناحية الوجودية، نحن محكومون بأن نكون أحرارًا.
اعتقد سارتر أننا لا نملك جوهرًا [المترجم: وذلك في قوله: ان الوجود يسبق الجوهر]، وبالتالي يجب أن نوجد ونبني جوهرًا لأنفسنا. لذا، على الرغم من أن كل هذا يمكن أن يسبب بالتأكيد مشاعر قلق ويأس لدى البعض، فلا داعي أن يكون هذا هو الحال.
الرحمة بالكائنات الحية
وكما في حالة الوجودية ، فإن اليأس والقلق لا يعرفان بالضرورة جوانب التشاؤم الفلسفي.
للتشاؤم تاريخ طويل في الفلسفة يعود إلى الإغريق (اليونانيين) القدماء. تقول أسطورة قديمة أن الساتير سيلينوس satyr Silenus كشف للملك ميداس أن أعظم شيء يمكن لأي إنسان أن يأمله هو ألا يولد أبدًا وأن ثاني أفضل شيء هو أن يموت مبكرًا.
لكن الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer [المترجم: مؤلف كتاب: العالم ارادة وفكرة] من القرن التاسع عشر يعتبره الفلاسفة أول كاتب غربي حديث عالج التشاؤم بشكل منهجي في كتاباته.
الدافع وراء تشاؤم شوبنهاور الفلسفي كان الشفقة / الرحمة والاهتمام بالناس – على الرغم من أن هذه الشفقة موجودة عند جميع الكائنات الحية، وليست مقصورة على الانسان فقط. هذا الاختلاف هو أحد الاختلافات المهمة مع الوجودية.
الاستهانة بالوجود
في تشاؤم شوبنهاور، نجد إستهانة واضحة بالوجود. على حد تعبيره، “عملٌ وهمٌّ وكدحٌ وعنتٌ هي في الواقع ما يعاني منه كل الناس تقريبًا طوال حياتهم،” و”يمكن للمرء أيضًا أن يتصور حياتنا على أنها حلقة مزعجة بلا فائدة في الهدوء الهانيء للعدم.”
وفي حال لم يكن شوبنهاور واضحًا بما فيه الكفاية في إستهانته بالوجود، يقول أيضًا “العالم ببساطة جحيم، من ناحية فأرواح الناس معذبة، ومن ناحية أخرى، هي شياطينه”.
نتيجة لذلك، بالنسبة لشوبنهاور، فإن عدم الوجود أفضل من الوجود. هذا يعني أنه بالنظر إلى خيار الوجود أو عدم الوجود ، فإن عدم الخروج إلى الدنيا (عدم الوجود) هو الخيار الأفضل. وفي هذا ردد ما قاله سيليوس Silenus، ولكن – وهذا أمر مهم – بمجرد أن نُولد، فإن أفضل ما يمكننا فعله هو اعتماد أسلوب حياة يبقينا بعيدًا عن الرغبات والحاجات. ومن مصلحتنا ألّا نسعى وراء الأشياء، بما فيها السعادة.
لا للإبادة الشاملة للحياة
لا هو أو أي فيلسوف متشائم آخر يناصر بأي حال من الأحوال، أي شيء كالإبادة الشاملة الجنونية – والمتمثلة في اتخاذ خطوات فاعلة ومباشرة لتدمير كل أشكال الحياة – كما يعتقد البعض خطأ.
في النهاية، تشاؤم شوبنهاور يعتمد كليًا على آرائه الميتافيزيقية بخصوص طبيعة الوجود نفسه – وجوهره هو ما أسماه الإرادة.
الجانب المشرق
بالنظر إلى أن العالم الذي نعيش فيه يجبرنا على التعامل مع الأوبئة والمشكلات الاقتصادية والحروب وتغير المناخ، فقد يبدو ما لا يمكن تحمله في أن علينا أن نكون سعداء.
وحتى إذا قررنا أن نتصرف بهذا النحو، فلا يزال الوضع، وفقًا لمذهب التشاؤم، أننا موجودون الى ما لا نهاية لغرض أن نحقق رغباتنا واحتياجاتنا. في ضوء ذلك، فإن حتمية السعادة تتعارض مع جوهر الوجود (إرادة شوبنهاور) لأن الرضا (الإشباع) غير ممكن. لذلك فإن توقعنا بأن نكون سعداء يصبح صراعًا مع طبيعة الحياة ذاتها.
لهذا السبب عندما يتوقع المجتمع منا أن نكون سعداء، ويلومنا إذا لم نحقق ذلك، تصبح الإيجابية سامة [أي أن نكبت مشاعرنا السلبية الحقيقية].
إذا وجدنا أنفسنا غير قادرين على الارتقاء إلى مستوى حتمية السعادة، فقد نشعر بعدم الكفاءة ونرغب في الفشل.
قد يقدم لنا التشاؤم أدوات فلسفية تساعدنا على فهم مكاننا في الوجود بشكل أفضل. قد يساعدنا في التصالح مع فكرة أن رفض السعي بلا هواد وراء السعادة ربما يكون هو الرأي الأكثر منطقية.