قراءة انطباعية ..لأطروحة الهايكو العربي
حسن النمر
كان من ضمن قراءاتي في الفترة الماضية كتاب مهاكاة ذي الرمة، أطروحة الهايكو العربي للشاعر حيدر العبد الله، وتعرفت في هذا الكتاب على أمور جديدة، تعرفت على منطقة ليست في الدائرة التي أتصل بها، فلا أعرف عن اليابان إلا القليل، ولم يخطر ببالي أن أتعرف على الأدب أو الشعر الياباني قط، وحين رأيت الإعلان عن الكتاب قلت:
يبدو كتاب الفن والتبيانِ
سرٌّ به يبدو على العنوانِ
ورسائلٌ فوق الغلاف، كأنها
وصلت به العربيّ بالياباني
هل تملك اليابان في آدابها
سحر البيان ورنّة الألحانِ؟
فقد كان العنوان لوحده مدهشًا، ما هو الهايكو؟ وما علاقة ذي الرمة، كما أذكر إنني زاملت بعض اليابانيين في أيام الدراسة بالمملكة المتحدة، فوجدتهم أقل الناس كلامًا وأكثرهم خجلًا،
وهذا ما لا يتفق مع صورة الشاعر التي رسمت في ذهني (الشخصية النارية كما يعبر الدكتور عارف حجاوي)، فكانت الدهشة مع هذا الكتاب.
لا أريد الآن تلخيص الكتاب، فقد قرأته في أربعةٍ وعشرين يومًا مع كثرة انشغالي وإزعاج أطفالي، أريد فقط أن أضع مجموعة من النقاط، هي انطباعات وأفكار غير منظمة حول هذا الكتاب
أولًا:
هذه الأطروحة التي وصفها الكاتب بالمغامرة، جديرة بأن توصف بالأطروحة الرائدة. ولو أردنا استعارة المصطلح الفقهي لقلنا: إن الكاتب مجتهدٌ وليس مقلّد،
فقد وضع القواعد للهايكو (العربي) بقوة واقتدار، دون حاجة لمرجعية في وضع هذه القواعد الثلاث، وهي الإيقاع والتصوف والطبيعة، وكان طرحه ناتجٌ عن فهم طبيعة الهايكو الياباني، واقتناصٍ ماهرٍ لمقومات الأدب العربي لاستيعاب هذا الفن، فخرج بهذه الأطروحة بجذور عربية عميقة، هي التصوف وعلم العروض وعلم الأنواء، وغيرها.
ثانيًا:
لقد أعاد الكاتب تقييم الشاعر غيلان ذي الرمة، بتحرر واضح من الموروث الأدبي القديم، الذي يقيّم الشاعر بمعايير محددة، أخذت كأنها من المسلّمات، فقيل عنه مثلًا (كان يكتب الجيد ويكتب الرديء) بل استطاع الكاتب أن يبيّن أن الشعراء يعرفون ميزة ذي الرمة ويستصغرونه لأسباب غير موضوعية، هذا ما وصلني أثناء القراءة.
ثالثًا:
أقول بكل صراحة إنني لم أقتنع بعد الانتهاء من قراءة الكتاب، لم أقتنع ولم أستسغ أن الهايكو يستحق أن يوصف بديوان العالم، فهو زاهدٌ إلى حد لا يمكن معه التدوين، ولا يمكن فهمه إلا بالتأمل، بل لا يمكن ضمان صحة الفهم حتى مع التأمل، فقد يكتب الهاكي بقصد ويفهم القارئ امراً آخر، (ولعل) هذا الأمر هدف الهكاة، الذين يصورون الصورة كما هي ليفهم منها كل واحد ما يشاء.
وأوجه سؤالي للمثقف العربي: وأستحلفك بالله كما يقول الشيخ باسل الصباح، أستحلفك بالله، ماذا تفهم من هذا الهايكو التالي؟ ولا أريد منك الجواب، تأمل طويلًا ثم أجب:
يقول باشو:
صوت بائع الحبّار
يمتزج
بصوت الواقواق
كل متأمل سيشكل صورةً تختلف عن الآخر، وإذا كان الكلام عن التدوين، أتسائل: هل يدوّن الناس بهذا الإيجاز؟ وهل يتمكن الناس من التأمل المتصوف الذي كان عند باشو مثلًا؟ إضافة إلى ضرورة وجود القرينة الفصلية، هل يعني ذلك أن (العالم) يحتاج إلى مذاكرة ١٦،٠٠٠ قرينة، ليفهم ماذا يكتبه باشو؟
لم أجد في الهايكو عنصرًا يجعله ديوانًا إلا الموضوعية أو الهكذائية كما يحب أن يقول الكاتب، لأنها تجعل التدوين بعيدًا عن الانحياز وأقرب إلى الموضوعية، هذا ما أفهمه من التدوين،
ولا أقصد بهذا الكلام الاستخفاف بالهايكو، ولكنني أقصد أن وصفه بديوان العالم، مبالغةٌ كبيرة.
وفي المقابل إذا قلنا أن الشعر ديوان العرب، فإننا نجد في الشعر العربي، الوصف والتأريخ والأفكار والعواطف وأكثر من ذلك، بهكذائية وبغير هكذائية.
وقد أضاف الكاتب على ما أعرفه في الشعر العربي من تدوين، ما دوّنه ذو الرمة في وصف طبيعة الجزيرة العربية، وهذا يزيد رصيد الشعر العربي ك.
فكيف يمكن للهايكو أن يكون ديوان العالم والشعر العربي ديوان العرب، وإن أردت المبالغة لأرد على هذه المبالغة في وصف الهايكو، قلت: إذا كان الهايكو ديوان العالم فإن الشعر العربي ديوان الدنيا والآخرة.
رابعًا:
استطاع الكاتب أن يقدم الهايكو للشاعر العربي على طبق من ذهب، فلا مبالغة أن أي شاعر عربي يقرأ هذا الكتاب سوف يتمكن من كتابة الهايكو، لأن الشاعر العربي مؤهل أن يوجز، وبكلمة اخرى (مؤهل أن يعود من القصيدة إلى الآهة) ولا ينقصه إلا أن يختار أن يكون متصوفًا متأملًا ، وأقول (يختار ان يكون) لان التصوف ليس لازم للشاعر كلزوم المؤهلات الأخرى، فيجب عليه أن يختار، ولأبرهن على ذلك أكتب هذا الهايكو تطبيقًا لما فهمته من الكتاب، وأرجو أن لا يكون ما كتبته دليلًا على فهمي الخاطئ:
أقول لشجرة الحياة في البحرين:
من الشمس
غصن الغاف يلقي بظلّهِ
على الرمل
خامسًا:
إن الكتاب أوسع من كونه كتابًا ادبيًّا، إنه ينتقل بالقارئ إلى الطبيعة والإنسان، إنه يضع الإنسان في موقعه الفطري بين المخلوقات، فلا هو سيدها ولا هو محورها، وبهذا يختزن الكتاب معلومات وافرة، خصوصًا في الفصل الأخير منه، عن طبيعة الجزيرة العربية، وقد كان توزيع القرائن الفصلية العربية رائعًا ورائدًا.
وفي الختام أقول:
كان هذا الكتاب رائعًا في فكرته وأسلوبه، وكان الكاتب جريئًا.وذكيًّا، ويظهر من سعة المعلومات وتنوعها انه اجهد الكاتب في البحث في مجالات عديدة.
لقد كشف الكاتب في هذا الكتاب موهبةً جديدة، إضافة إلى نبوغه في الشعر، إن هذا الكاتب عبقريّ فعلًا، وهو درّة هذا الجيل، وفقه الله إلى مزيد من التوفيق والنجاح.