همسة محب
السيد فاضل آل درويش
ورد عن أمير المؤمنين (ع): نعم الهدية الموعظة) (غرر الحكم : ٩٨٨٤).
بس الأحكام الشرعية تتوجه نحو الفرد لبيان علاقته بربه والواجبات الملقاة على عاتقه، وتارة تكون موجهة نحو علاقاته الاجتماعية فتشير إلى القواعد التي تحكمها وتتجه بها نحو الخير والصلاح للجميع، والدين الحنيف أولى أهمية كبيرة وبث من الإرشادات ما يضمن الاستقرار في العلاقات الاجتماعية والسير بها نحو التكاتف والتعاون والتآزر، فالمجتمع كالسفينة يعلو ظهرها الناس ومتى ما حاول البعض التخريب والتدمير في بقعة منها بحجة الحرية المزعومة، فسيحل الخراب ويغرق الجميع ويصابون بلوثة الظواهر السلبية والسلوكيات غير المقبولة، والحل المفضي إلى حفظهم وسلامتهم هو الأخذ بيد المخرب ودعوته إلى التخلي عن هذا السلوك، ومن هنا انطلقت التوجيهات الداعية إلى تقوية العلاقات وانتزاع روح الشر والعدوانية من خلال القلوب البيضاء المحبة للخير ولجميع الناس، فلا تتمنى يومًا وقوع أحدهم في طريق السوء والضياع وتبقى قواه دون حراك تجاهه، إذ لو رأينا أحدهم يقع في البحر وهو يصرخ طالبًا النجدة فمن المحتم علينا بحكم الرابطة الإنسانية الهرع إلى إنقاذه وتقديم المساعدة له.
من العوامل المؤدية إلى تقوية العلاقات بين أفراد المجتمع والموجدة لأرضية المحبة والاحترام والثقة المتبادلة هي الهدية، وذلك لما تشكله من شعور وجداني يحضر صاحبه في القلب ويكن له محبة صادقة فلا يغيب عن باله، فهي تعبير عن تلك الألفة وخلو القلب من أي مشاعر سلبية تجاهه، وفي حالة الخصومات والاختلافات تحضر الهدية كعامل مؤثر في سحب فتيل الأزمة والكراهية وتهدئة النفوس وإعادة التوازن الفكري والانفعالي والاتجاه به نحو إيجاد الحلول الممكنة والمرضية، وعمومًا فإن الهدية – مهما كان ثمنها المادي – تنشأ قيمتها الحقيقية من تلك المشاعر الإنسانية الجميلة تجاه الآخر وبيان مكانته القلبية، إذ العلاقات في اتجاهها نحو القوة أو الضعف إنما هو وليد المواقف، والهدايا تعزز تلك العلاقات وتتجه بها نحو زيادة في الألفة والمحبة، ومتى ما تشكلت الهدية كتربية وثقافة بين أفراد المجتمع فإن النفوس تنسل منها العداوات وتصفو تجاه الآخر وتميل نحو الصفح عن الإساءة والتسامح، فالخلق الرفيع عامل مؤثر في العلاقات الاجتماعية الناجحة ويجنب الأفراد الخصومة والقطيعة، لتأتي الهدية كعامل معزز لتلك العلاقات ومقو لها، فعلماء النفس والاجتماع يرون في الهدايا عاملًا محفزًا نحو الاستقرار وتبادل الاحترام والثقة والتعاون.
وأمير المؤمنين (ع) يرفع الغشاوة عمن قصر الهدية على المعنى المادي فقط؛ ليزيح الستار عن المعنى الشامل لها الذي يشير إلى كل ما يقدمه المرء إلى أخيه دون مقابل سواء كان ماديًا أو معنويًا كالموعظة، فالمؤمن يتخلص من روح الأنانية والنفعية الذاتية فيرغب بالخير والصلاح وجلب المصلحة لجميع من يتعامل معه، ومن ذلك رغبته برؤية من حوله وهم يتمتعون بأعلى درجات التكامل والفضيلة، والتخلص من الآفات الأخلاقية والغيوب المنقصة لهم مكانتهم في أعين الآخرين، فالمؤمن يتألم لحال الآخرين حينما يراهم بحال السوء أو وقوعهم في مشكلة أو تعثر في أمر ما، مما يستدعي من روحه الطيبة مد يد العون بقدر إمكاناته، والنصح لا يعد تدخلًا في حياة الآخرين وإقحامًا للنفس في خصوصياتهم وتفاصيل حياتهم كما يدعي البعض، بل هو مرآة صافية يرى فيها المرء حقيقته والوسخ المعنوي الذي لحق به دون أن يكتشفه، فتأتيه همسات محب تدله على مواطن الخطأ في الفكرة والسلوك، والنصح كذلك ليس ادعاء بامتلاك الحقيقة والحكمة والفهم دون الغير كما يصورها البعض، بل هي إرشاد لأمر يجلب المصلحة لنا ويدفع عنا الضرر ويجنبنا الآثار السلبية للوقوع في الأخطاء، فالترفع على الاستماع للموعظة ورفضها بحجة الاستغناء عنها بدعوى امتلاكه للوعي والفهم وهو أدرى بمصلحته وهم، فلا يمكننا إنكار وجود الخبرات المتراكمة والتجارب المحنكة للعقل والمكسبة للشخصية الاتزان والاستقامة، والعقل الجمعي والنقد الإيجابي من السبل التي تتجه بالفرد نحو التكامل والرقي، وتكسبه قوة في مواجهة الشبهات الفكرية والظواهر السلبية، كما تساعده على وضع الأهداف المناسبة لنظرته المستقبلية لحياته.