أمانة مسؤولية الأوقاف.. الحاج علي بن عبدالله بن إبراهيم البحراني أنموذجًا
إبراهيم بوخمسين
بالتضحياتِ مضى وأفنى عُمرَهُ..
يا شيخَ (بحرانٍ) ويا عَلَمًا بها..
الحاج علي بن عبدالله بن إبراهيم البحراني من الرجال الذين يتركون بصماتهم في الحياة، أولئك الذين كان سماتهم الإخلاص والتقوى والجد ومراقبة الله في كل أحوالهم كما قال تعالى ” وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ”.
وعَلمُنا الذي نتكلم عنه هو من التصقت به تلك الصفات وهو من عني به في بيت الشعر السابق ذكره، إنه الحاج علي بن عبد الله بن إبراهيم البحراني من مواليد حي الفوارس بمدينة الهفوف بتاريخ 1/7/1323هـ. ومن منا لا يعرف عائلة البحراني الكريمة والمليئة بالرجال الكرام والأطباء والدكاترة والمهندسين والمثقفين. لقد جاورتهم بصباي في شارع الفوارس وجاورتهم بحي الأندلس، ومنهم الملا طاهر البحراني العالم الجليل والأديب والخطيب المفوه صاحب الصوت الرخيم والطور المميز الذي أصبح أنموذجًا يَحْتذِي به الخطباء في نعيهم للإمام الحسين عليه السلام، فلم ترَ عيني ولم تسمع أذني منهم إلا حسن السيرة والسريرة.
ولكننا في مقالنا هذا لن نقارب الحديث من الجانب الثقافي والأدبي أو العلمي، وإنما نقاربه من جانب آخر، جانب الأمانة وحمل المسؤولية التي أبت أن تحملها السموات والأرض
” إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان”، وأي شيء أكبر من أمانة الأموال، قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: ” ثلاث يمتحن بها عقول الرجال، هن: المال، والولاية، والمصيبة” ولقد كان لي الشرف من أخي وصديقي المهندس أمير بن المرحوم الحاج علي أن أكتب شيئًا في هذا الباب.
عَلمُنا قد مر بهذا الامتحان فاجتازه على أكمل وجه في ولايته لرعاية الأوقاف التي كلف بها من قِبل عائلته بشهادة معاصريه وممن عاشوا معه، ومن العلماء الذين احتكوا معه في هذه المسألة، والوثائق التي رصدت في هذا المجال.
شيء من سيرته الحسنة:
له من الأولاد ستة ومن البنات ثمانية. كان عصاميًا، تعلم مهنة خياطة البشوت “المشالح” فلم يكن عاملًا لدى أحد المعازيب، وإنما كان يشتري لوازم الخياطة ويعمل بها حتى تكتمل، ثم يقوم ببيعها في سوق القيصرية.
– لقد عُرفت عنه علاقته الحميمة بأقاربه ومجتمعه بأنه لين العريكة محبوب بين أبناء عمومته ومجتمعه، واشتهر بالنزاهة والتقى، وكان ذلك جليًا عندما تم ترشيحه من قبل أبناء عمومته لإدارة الأوقاف كما ذكر الحاج “محمد أحمد البحراني “بوعلي” من خلال مقابلة مسجلة أجريت معه. ومن أعماله المشهودة له، حينما انتقل إلى حي الفاضلية فكان يذهب إلى مسجدها المعروف الآن باسم مسجد الإمام زين العابدين عليه السلام، وكانت المساحة لا تتسع لإنشاء محراب المسجد، فاقترح أن يكون المحراب في بيته حيث خصص غرفة المجلس الملاصق لجدار المسجد من البيت وعُمل فيها المحراب، وقد أشاد بذلك إمام المسجد سماحة المرحوم السيد عبد الله الحاجي بهذه الخطوة الإيمانية التي تدل على عشقه لعمل البر.
– كان عاشقًا للمسجد ومداومًا للصلاة فيه حتى مع تدني صحته وخير دليل هو إيثاره جزء من منزله لقبلة المسجد، كما كان استئناسه بكتاب الله الكريم الذي كان مداومًا على قراءته وكان جزءًا من جدوله اليومي.
– ومن حسن سيرته الأمانة والإيثار: ذكر ابنه الأكبر عبدالله “بو نايف” رحمة الله عليه: أنه من خلال زيارات الوالد إلى الكويت كان أخوه الحاج المرحوم حسن “بو ناجي” الذي كان يقيم في الكويت قد حاول عدة مرات أن يقنعه بترك الأحساء والمكوث في الكويت خصوصًا بأن الحياة الاقتصادية فيها خلال تلك الفترة كانت منتعشة، وكانت هناك عدة فرص استثماريه. وقد حاول إقناعه بأن هناك من أبناء العم وأشخاص آخرين قد قدموا وتوطنوا في الكويت من عوائل مثل الرمضان والبوخمسين والمهنا والشواف وآخرين. وقد كرر وحاول أن يقنعه، ولكن الوالد رفض، وكان يقول دائمًا لا يمكن أن أترك الأوقاف التي أنا مؤتمن عليها.
ومن الحالات الملفتة للانتباه أنك ترى إجماع واتفاق أفراد وشخصيات متفاوتة سنًا ومختلفة مكانًا على وصف صفات شخصية من الشخصيات إلا إذا اجتمعت تلك الصفات فيه وتحدث عنها الرجال والمجتمع وحفظتها الأجيال. وخلال دراستي لسيرة الحاج علي البحراني أحصيت أحد عشر شخصية ممن أُجريت معها لقاءات من أبناء عمومته، ومن الأسر الأخرى حول شخصية الحاج وقد اتفقوا بأجمعهم على صفة الهدوء والحلم ومداومة الصلاة والأمانة والتقى والورع والعفة والنزاهة، وهذا مما أدى إلى ترشيحه لتولي الأوقاف كما سنتطرق إليه في فقرتنا التالية.
هذا المعنى لم يغب عن مخيلة الشعراء فذهبوا يتغنون بهذه الخصال، وممن جادت قريحتها لرصد هذه الصفات الشاعرة القديرة تهاني الصبيح حيث قالت:
عُد يا عليّ إلى دياركَ إنّها … في ركنها الإيمانُ يبعثُ نورَهُ
واسألْ عن الجدران ..عن يدِكَ التي … كانت تهزُّ النّخلَ تحملُ صبرَهُ
وعن الجبينِ وعن ملامحِ عابدٍ … عكسَ الضياءَ لكي يعانقَ فجرَهُ
يا شيخَ (بحرانٍ ) ويا عَلَمًا بها … بالتضحياتِ مضى وأفنى عُمرَهُ
ويؤكد الشعر الجميل جاسم عساكر هذا المعنى في قصيدة له يصف فيها الحاج، نقتبس جزءً منها:
وماذا عنكَ أُخبرُ يا ( عليًّا) … توطّنَ في ضمائرنا مهابا؟
قضيتَ العمرَ إيمانًا ودينًا … وفي الخيراتِ أفنيتَ الشبابَا
وحارَ الزهدُ يرحلُ بالمطايَا … فحطّتْ فيكَ رحلتُهُ الركابَا
فكمْ مَيْتٍ مع الأحياءِ يمشي … وكمْ حيٍّ وقدْ سكنَ الترابَا !!
وانطلق حفيده المهندس علي بن أمير البحراني يشعر في حقه:
ما ترك ذكر الصلاة وهو ضرير … وربي يعطيه الشجاعة وينصره
جدي بن عبدالله الجد القدير … جعل روحه في الجنان ومحضرَه
رعايته للأوقاف وسياسته في إدارتها:
إنك متى ما اطلعت على رعايته وسياسته في إدارة الأوقاف فسيستوقفك جميل أمانته وحسن سياسته في توثيق المعلومات الخاصة بها وحجم المسؤولية التي حملها على عاتقه لكثرة الأوقاف التي زادت على الــ” 85″ وقفًا، ولكننا نرجع إلى تاريخ 24/9/ 1376 هـ من وثيقة رقمها 891 حررها العلامة السيد محمد بن السيد حسين العلي، وصدق وحرر العمل على ما جاء فيها العلامة الشيخ باقر بوخمسين حيث جاء فيها:
“وقد عين من قبل الشرع هيئة من بني عمه لانتخاب شخص يتولى الأوقاف ويقوم بعمارتها وصلاح شؤونها وصرف الحواصل في جهاتها، ودفع ما للذرية لمستحقه. وقد قررت الهيئة المزبورة أن يكون المتولي للأوقاف علي بن عبدالله بن إبراهيم البحراني، لكونه عند المذكورين ثقة أمينًا وهو قائم بالأوقاف التي تحت يده على أكمل ما ينبغي بناءً على ما زبروا اعتمادًا على تقرير الهيئة فقد أعطيناه الولاية على الأوقاف المزبورة”.
ويأتي تأكيد هذا المعنى في وصية الحاجة فاطمة بنت إبراهيم البحراني عمة الحاج علي بتوليته على ثلثها وعلى الوقف التابع لها. إلى جانب وثائق أخرى كلها توثق أمانة الحاج علي.
ولكي نقف ونتعرف على رعايته وسياسته للأوقاف علينا أن نعرف خارطة العمل التي اتبعها لتنمية الأوقاف وحفظها:
توثيق ملكية الأوقاف:
المتابعة الحثيثة من تسجيل وإثبات الملكية للأراضي والنخيل التابعة للأوقاف وعدم التأخير في المطالبة بها، وإثباتها في الدوائر الحكومية الرسمية. حيث كان ذلك يتطلب المتابعة المستمرة مما أدى إلى أن يعين أكثر من محامي لكسب الوقت والإسراع في التوثيق، ومن هؤلاء: المرحوم الحاج عبد الله بن محمد البوقرين من بني معن، والمرحوم الحاج السيد علي بن السيد محمد المسلم، والمرحوم الحاج محمد بن سلمان الفهيد.
إصلاح الأوقاف
المبادرة لإنقاذ الأوقاف من الخراب: كانت الأوقاف التي استلمها الحاج علي بن عبدالله البحراني متضرره بشكل كبير حتى أن بعضها قد أشرف على اليباس والموت، كما ذكر الحاج “محمد بن أحمد البحراني من خلال “مقابلة مسجلة” ولقد اتخذ عدة إجراءات لإنقاذ الوضع القائم لتلك الأوقاف. وفي هذا الصدد تمت الاستعانة بأصحاب الخبرة المشهود لهم وذلك لمساعدته في إدارة الوقف، من أمثال الحاج المرحوم أحمد المازني الذي له شهرة في مهنة الزراعة وتمت الاستفادة منه من أجل إصلاح النخيل وإعمارها وإرجاعها إلى الحالة الطبيعية.
تنمية موارد الأوقاف:
ويأتي في هذا الصدد عدة خطوات:
– متابعة تعويضات هيئة مشروع الري والصرف بالأحساء، كما هو معلوم عند بداية مشروع الري والصرف بالأحساء في عام 1965م قامت الهيئة بنزع ملكية المزارع التي تواجه خطط ومواقع المشروع دون استثناء.
– استثمر الأموال الفائضة لشراء بعض المنازل لتنمية موارد دخل الأوقاف، من المبالغ المستلمة من هيئة مشروع الري والصرف مقابل تعويض نزع الملكية ومن الأموال الفائضة من بيع المحاصيل الزراعية مثل الأرز الأحسائي (الرز الحساوي) الذي يباع إلى محمد بن علي بوهويد وأخيه ياسين وإلى طاهر بن خليفة الصالح. أما بالنسبة للتمر فكان يباع في السوق عن طريق ناصر بن حسين المبارك. ولتنمية موارد الوقف تم شراء “6” ستة منازل في أحياء مختلفة.
– وضع خطه لبناء الأرض التابعة لأوقاف جده إبراهيم الواقعة في شارع الفوارس وقد تم الاتفاق المبدئي على بنائها مع المقاول المعروف معتوق الشبعان “بو أحمد” محلات تجاريه بسبب الموقع الإستراتيجي لها. وقد تم زيارة الموقع أكثر من مره لوضع اللمسات الأخيرة والمخطط. ولكن لم يتمكن -يرحمه الله- بتنفيذ هذا المشروع. حيث تم بعد ذلك تأجير الأرض بكاملها كمستودع ومحلات تجاريه.
منع التعدي على الأوقاف:
الوقوف والتصدي بكل حزم لمن حاول التعدي على بعض الأوقاف، برفع ومتابعة بعض القضايا في هذا الملف، فقد ذُكِرت حالات تم فيها الاستيلاء على بعض هذه الأوقاف، وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى تم تجاوز هذه الحالات وقد صدرت صكوك شرعية تثبت ملكية الأراضي والنخيل وأحقية الأوقاف التابعة لجد علي الحاج إبراهيم “رحمه الله”.
صرف إيرادات الأوقاف:
تم صرف ريع الأوقاف في وجوه الخير ونشر المعارف الدينية في عدة قنوات:
– نصب المآتم الحسينية والقراءة على الإمام الحسين والأئمة الأطهار عليهم السلام، ومن الخطباء الذين اتفق معهم: المرحوم الحاج الملا طاهر البحراني، والحاج المرحوم الملا عبدالله السلمان الناصر من المنصورة، والملا جمال الخباز من القطيف، والملا علي الراشد من غمسي، والملا سالم من المحمرة، والملا المرحوم حجي الراشد من غمسي، والملا المرحوم محمد الرمضان، وكان يقدم “البركة” في وفيات الأئمة الأطهار عليهم السلام.
– القيام بأعمال البر الخيرية والاضاحي وتوزيعها على الفقراء.
– أعمال موصى بها كقراءة القرآن والصيام حسب الوصايا المكلف بها.
توثيق الحسابات والإيرادات والمصاريف وتنظيمها:
كنوع من الشفافية والتوثيق، فقد كان حريصًا على تسجيل جميع إيرادات الوقف ومصروفاته بطريقة رائعة ومرتبة كما تدل السجلات على ذلك. وفي هذا الصدد استعان بالحاج السيد عبدالله بن السيد هاشم الهاشم، وأخيه الحاج السيد حسين، وذلك للقيام بالتسجيل في الدفاتر “مجلدات”. وكان يحرص في ختام السنة الهجرية على الذهاب إلى السيد العلامة محمد بن السيد حسين العلي قاضي المواريث في ذلك الزمان للاطلاع على جميع الحسابات، ويراجعها معه. ومن ثم يعلق عليها سماحته ويكتب ” علي ولد عبد الله مصدق فيما يقول وأنه موثوق لدينا” ثم يعتمد سماحته ما جاء ويذكر أن الحاج علي معروف بالتقوى والورع ويختم بختمه الشريف.
ولقد اتبع الحاج علي أسلوبين في التوثيق، السجلات اليومية والسجلات السنوية. وتشير السجلات التي بين أيدينا أن هناك سجل يومي لكل وقف وآخر سنوي. وهذا منتهى الشفافية ولكي لا ينسى أية شاردة أو واردة من إيرادات الأوقاف ومصاريفها.
السجلات اليومية: وكمثال نأخذ سجل ” نخل غزالة”: يوضح السجل المصاريف من بداية الشغل من الحَشَاشْ وحرث الأرض وتنزيل الثلة ” والثلة هي الحشائش وليف النخيل والكرب والسعف يجمع في كومة أو أكوام” في وسط الحيال والتطبين ” حرق سعف النخيل والكرب وغيرها”، وتوصيل قنوات الماء إلي وسط النخل وسقي الحيال ” قد يكون النخل كله حيال واحد أي قطعة واحدة وقد يكون عدة حيالات بينهما طرق ضيقة للمشي” ودفن الطبائن وتنزيل البيبات وهي مواسير المياه، ووضع العطن (السماد) و ونثر وزرع البذر وبناء البـِــرَكْ والمشاريب. ويأتي تفصيل البيانات كالتالي:
١- كل يوم عمل مفصل بمصاريفه لوحده في جدول (مصاريف يوميه).
٢- كل خطوات الأعمال في نخل غزاله مثل الحشاش وبط الكرب وغرس الفسائل والبذور… حسابه لوحده في جدول. (خطة توضح تكلفة كل بند من الأعمال لمعرفة كل بند على حدة)
٣- جدول يوضح بيان جرد الأعمال بالكامل مع المصاريف.
٤ – توثيق المصاريف بشهود.
السجلات السنوية: وفيها أسماء النخيل والقائمين عليها من الكدادين وأنواع التمور كالخلاص والحاتمي والرزيز، والمستلم منها “الداخل” كل باسمه وكذلك الرز ” العيش ” بشيء من التفصيل. وفيه أيضًا بيان تصنيفي بمجموع الداخل من التمر وبيان تصنيفي بمجموع الداخل من العيش ” الرز “. نرفق صفحة من دفتر لسنة ١٣٨٧-١٣٨٨ للهجرة، يوضح جميع المستلم (الداخل) والمباع من الرز. ويلاحظ في الصور المرفقة بيان مقاييس ومكاييل ذلك الزمن كالموسمية تعادل 240 كيلو جراماً، أما الجياسة فتساوي 10 كيلوجرام.
المعاملة الحسنة مع المستأجرين والكدادين:
دأب في معاملتهم بالحسنى، فكان الفلاحون يأنسون به حيث كان لا يثقل عليهم في أجرة (الكدادة) وكان معروفًا بدعائه لهم بالبَرَكة والزيادة، فقط يدفعون المتفق عليه ويترك لهم الاستفادة من النخل بكامله.
تنعّمْ رافلًا في دارِ خُلدٍ … بِها ما لَذَّ من نِعَمٍ وطابَا
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نسأل الله سبحانه أن يرحم الحاج علي بن عبدالله البحراني ويوفق أبناءه لمتابعة ومواصلة الطريق الذي سلكه والدهم. ورحم الله مؤرخنا الكبير الأديب المؤرخ المرحوم الحاج جواد الرمضان حيث قال في حق الحاج علي: بحكم مجاورته للمسجد كان حريصًا على الصلاة بالمسجد، وكان آخر من يخرج من المسجد” ” بل كان عنده مفتاح المسجد وكان قليل الكلام” ” تولى الإشراف على أوقاف أسرة البحراني.