الخطاب المؤثر والمعطاء
السيد فاضل آل درويش
وكم من كلمة تمر على الفؤاد وكأنها فقاعة هواء لا وجود ولا تأثير لها، والآذان لا تعير لها قيمة ولا وزنًا بل وتعرض عنها والوجوه تبدو ثلجية لا تعبير فيها أو ردة فعل تجاهها! !
هناك أسس يشيد على أساسها بنيان تبادل الأحاديث الشفهية والحوارات وصولًا إلى الخطابات المؤثرة والمنتجة، والعمل بها والتمسك بطرف الخيط من جهتها يشكل البداية للسكة الصحيحة في الكلمة المؤثرة، وللأسف نجد كنموذج لتلك الفقاعات هي الثرثرة الخطابية ورص الكلمات لتبان للناظر من بعيد بأنها خطاب، ولا يتعب معدها نفسه لتقييمها وتجويدها ومراجعتها للتأكد من صوابية منطقها وروعة أسلوبها وحملها للمضامين الجيدة التي تستحق الاستماع لها ووضعها تحت مجهر النقد والتقييم بعيدًا عن رتوش المجاملات المقيتة، فالكلمة فن في تجهيزها وإيقاعها وتأثيرها وهذا ما يستوجب علينا تجنب إلقاء الكلام على عواهنه واتخاذ أسلوب الثرثرة المغلف بكلمات رنانة، فللآخر شخصيته وحقوقه التي لابد من التذكير بمراعاتها والاهتمام بها حتى تكون لغة التخاطب مثمرة، فبعض الخطابات في حقيقتها ليست أكثر من تكرار ممل وحشو فارغ ومضيعة للوقت وقد نقسو إن قلنا أنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، وما لم نجر مراجعة وتقييمًا دقيقًا لواقع خطاباتنا ونقدها بنحو إيجابي فلن نحقق المأمول من وجود خطاب رضين وعملي يؤتي أكله.
كثيرا ما يطرح هذا التساؤل المهم، وهو: لماذا لا نجد الخطاب المؤثر إلا نادرًا أمام الكم الهائل من المحاضرات والندوات التي تلقى بلا أي تأثير يذكر؟
كانت الكلمة لها وزن الذهب في وقعها وتأثيرها وقيمتها فيما توجده من همة عالية وتحريك نحو ساحة العمل أو التنبيه على الأخطاء والظواهر السلبية وبيان أوجه أضرارها، كما أن مستجدات الإعلام التي تنوع في أساليب الخطاب تعزز مكانة الكلمة وموقعيتها، وأما التمسك بالأسلوب التقليدي الذي أضحى اليوم مع هذا الواقع الجديد مملًا ولا يستهوي النفوس، فقراءة الواقع والمتغيرات والمستجدات على لوحة المشهد يجعلنا قريبين من عقول الغير وطريقة تفكيرهم واتخاذ مواقفهم.
المضمون الخطابي أمر مهم في صياغته بنحو علمي يمكن من خلاله تقديم أفكار ورؤى يمكن تناوشها والبحث من حولها، وأما تلك الخطابات الجامدة والاسطوانة المشروخة التي لا تقدم ولا تؤخر، فلا أعتقد أن لها مقامًا بين عقول الشباب والمثقفين اليوم، فاحترام عقول الآخرين يعني إثراء للمادة المعرفية وتنويعًا في الأساليب الجذابة والمشوقة وتجزئة للموضوع حتى يسهل استيعابه.
المشاكل الاجتماعية والثقافية والسلوكية يبدأ مفتاح معالجتها من التنويه بها وتصوير واقعها وتداعياتها، ومن ثم الانبراء للبحث عن المخارج والحلول بعيدًا عن لغة العاطفة المجردة أو المثالية، فلغة الصوت الصارخ ما كانت ولن تكون يومًا الطريق الصحيح للتشافي من الآفات والفيروسات المعنوية، وهذا لا يعني أن الخطابات لا تتميز عن الدراسات العلمية المعمقة في مضامينها وأساليبها ومخرجاتها، وإنما هو التنبيه على تلك الخطابات المعنونة بما لا يتفق تمامًا مع مضمونها الركيك والمهلهل والخالي من مادة مستفادة.
الاستماع لصوت أفراد المجتمع وهمومهم ومشاكلهم وما يدور بينهم من قضايا، منطلق مهم لتحقيق التوافق النفسي والانجذاب للخطاب المطروح والاعتناء به، وذلك لتحقيق الطموح برؤية الكثير من أفراد المجتمع وهم يتحدثون مستقبلا بلغة عقلائية في جميع أمورهم واهتماماتهم، فالحياة ميدان تحد مليء بالصعاب والأزمات ويؤرق وينغص الحياة، وللظفر بحياة سعيدة وآمنة في وسط ركام الهزات العنيفة بالمجتمع المتمثلة بالظواهر السلبية، يحضر الصوت المنطقي في البحث عن معالجات بعيدًا عن السطحية والعاطفة العمياء، وتبنى الأفكار والقيم والزاد المعرفي على أسس منطقية رصينة وصولًا لحالة الإقناع البعيد عن العنف اللفظي.
الخطاب والمنبر الرصين المعطاء مهمة ليست بالسهلة ويحتاج تشييدها إلى مجموعة معايير لابد من ملاحظتها وتحصيلها، فالكلمة تأخذ موقعيتها عندما تكون موقفًا له سنده ووجوده على أرض الواقع.