منابع المعرفة عند الإمام الجواد (ع)
السيد فاضل آل درويش
هل لعامل الزمن وتقادم الأيام تأثير على تكوين المخزون والزاد المعرفي والفكري عند الإنسان، بحيث يلمح مع كل مرحلة في حياته تغيرًا وتطورًا ملحوظًا فيه ازدياد المعلومات وسعة أفق التفكير واتزانه ونضجه؟
بلا شك إن هذا الأمر ملاحظ بالوجدان في كل الناس بحيث أن حنكة عقله وإحكامه وطريقة حديثه وحواره تختلف في مرحلة الصغر عن مرحلة المراهقة وعن مرحلة النضج والشباب، هذا بالطبع مع ملاحظة مسألة الاهتمام والمتابعة والمثابرة والجد والمذاكرة لتحصيل وتثبيت المعلومات وتراكمها، ومسألة الاستنارة بتلك المعارف وتحويلها إلى قبسات سلوكية تبرز في تصرفاته وتعامله.
ولكن هناك فئة خاصة من الناس تحرق كل المراحل لتقف في الصف الأول من النبوغ والإبداع منذ نعومة أظافرهم، هؤلاء النوابغ الأذكياء يلاحظ عليهم تفتق الذهن وإتقان المهارات التفكيرية بشكل مذهل، بحيث يفوق عمرهم الذكائي كثيرًا عن عمرهم الزمني، فتتحدث مع هذا الطفل الصغير وكأنك تستمع لكلام منمق ومنظم من رجل كبير، وكذلك لمستويات التفكير عنده حتى أنه يصنف ضمن فئة الموهوبين الذين يحققون الدرجات العليا والإنجازات العلمية والقدراتية المختلفة، وبالطبع فإنهم مثار إعجاب وانجذاب من الآخرين وينظر لهم كرموز عالية الذكاء وحذاقة التفكير.
والقرآن الكريم أشار إلى فئة خاصة ممن نالتهم يد التسديد واللطف الإلهي فما نالوا علمهم بنحو الاكتساب والتدرج في المراحل التعليمية، وإنما كانوا يتمتعون بالعلم الإلهامي ( اللدني ) الذي كانوا معه مسددين بعناية الله تعالى في منطقهم وحوارهم وأجوبتهم، قال تعالى محدثا عن نبيه يحيى (ع): {يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}{ مريم الآية ١٢ }.
فما الذي يعنيه إتيانه الحكم وفصل الخطاب والعصمة وهو ما يزال طفلًا صغيرًا، إنه إشارة إلى العناية الإلهية الخاصة بالأنبياء وتمتعهم بالعلم الإلهامي الذي لا يأتي تدريجيًا بعد تنقل الإنسان من مرحلة تعليمية إلى ما هي أعلى منها درجة، بل علمهم منذ أن يولدوا كما هو في مرحلة شبابهم أو كهولتهم، فهذا نبي الله عيسى (ع) أنطقه الله تعالى بالحق وهو في المهد، في دلالة تأكيدية على خصوصية العلم الإلهامي عندهم، قال تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}{ مريم الآية ٣٠ }.
ومثل هذا التسديد الإلهي بالعلم الإلهامي نجده في سيرة الأئمة (ع) ومنهم من كان في سن مبكرة وقد ظهر على لسانه ينابيع الحكمة والمعارف الحقة مما لا يشك معه بأن هذا العلم هو اكتسابي بل هو علم لدني، فهذا الإمام الجواد (ع) قد فارق أبوه الرضا (ع) هذه الحياة وهو في سن مبكرة لا تتجاوز السابعة من عمره الشريف، وإذا بالذي يجلس بين يديه ينهل من موسوعة فقهية وقرآنية لا يحار جوابه عن أي سؤال يوجه إليه، بل وحضر المناظرات التي تجمع كبار الفقهاء والعلماء من مختلف الملل والنحل، فتطرح بين أيديهم المسائل العويصة وتدار بينهم الحلول المطروحة، وإذا بالإمام الجواد (ع) يقطع النزاع ويأتي بالرأي المسدد ومعه البرهان الذي يدل عليه، فيفحم الحضور وتحار عقولهم أمام هذه المرجعية الرشيدة، فما من معضلة علمية تطرح إلا ويكون فصل الخطاب فيها للإمام (ع) ويجلي الحقيقية للعقول.
ومن الشواهد الدالة على عظمته العلمية وقطعه للنزاعات العلمية والفقهية بالجواب المسدد، ما نقل من واقعة حصلت في مجلس المعتصم العباسي وتتعلق بحد السرقة، فالقرآن الكريم صريح في بيان حد السرقة في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}{ المائدة الآية ٣٨ }، ولكن الخلاف وقع في تحديد محل إقامة الحد أي المكان الذي تقطع منه اليد، فكل واحد من العلماء طرح رأيه ما بين القطع من الكتف أو المرفق أو المعصم، وهنا اشرأبت الأعناق وتطلعت العيون لما يروي النفوس من الوقوع على الجواب السديد مع بيان المستند الذي أيد به رأيه، فلما طرحت المسألة على الإمام الجواد (ع) أبان الجواب السديد مفندًا كل تلك الأقوال في المسألة، فإن القطع يكون من مفصل أصول الأصابع فيُترك الكف، فلما سئل الإمام (ع) عن الدليل على ذلك، قال الإمام: قول رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين» فإذا قطعت يده من المعصم أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال اللّه تبارك وتعالى: (وأنَّ المساجِدَ لله فلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحَداً) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها وما كان للّه لم يقطع )(بحار الأنوار ج ٥٠ ص ٤٢٤ ).