اتجاهات الإنسان في القرآن الكريم
السيد فاضل آل دويش
نقف أمام الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإنسان واتجاهاته وميوله منذ بدء الخليقة، وفي حركة مستمرة لا تخرج عن الإطار الذي رسمه وأوضحه إلا من خلال المواقف والشخصيات والنتائج المترتبة على كل جولة وحدث، والإنسان – بحسب الرؤية القرآنية يمتلك عقلا وفطرة سليمة يمكنه من خلالهما أن يرسم طريقه ومنهجه في الحياة دون وجود قوى متسلطة عليه، وإنما هي ظروف حياتية وحركة أعداء يهمهم أن يسقط في أتون التسافل والانحطاط الأخلاقي ولكن دون وجود دور قاهر يسلبه إرادته، فالإنسان في صفاته ودوره ما هو إلا رهين ما يتبعه من عقل ناضج ورشيد يأبى التصاق العيوب والنقائص به أو مسير أعمى خلف الشهوات وأهواء النفس التي تأبى إلا التواجد في دائرة السقوط والخطيئة، وقد ذكر القرآن الكريم لنا بداية حلقات التباين بل والصراع بين حركة الإنسان الخير والإنسان الحامل بين جنبات نفسه نوازع الشر وفي قلبه مشاعر سوداوية تلهبه بالكراهية والأحقاد، هو ما كان بين هابيل (ع) وقابيل الذي انتهى فيه الموقف في تلك الجولة بجريمة بشعة ألا وهي امتداد يد البطش والقتل للأخ، ولم يكن ذلك بسبب خصومة أو مشاحنة ألهبت نفس قابيل واتجه به تفكيره للقتل، وإنما كان ذلك وليد فكرة نرجسية واعتدادًا باطلًا بالنفس واعتقادًا بأن شمس المحبة من آدم (ع) لا تمتد إليه وتصله ما دام هابيل (ع) على قيد الحياة، متناسيًا أن السبب الحقيقي في رفض قربانه هو نفسه الدنيئة التي أبت إلا أن تقدم أخس ما عنده وما يمتلكه من حب رديء، وهذه الحكاية المتجذرة في الأصل البشري سردها لم يكن لإبرازها كقصة تتناقلها الألسن دون التوقف عند مسرح مشهدها والعوامل الموجودة في صلبها؛ لتكون موضع استلهام للعبرة وللحذر مما حذر منه القرآن الكريم وهو النفس الأمارة بالسوء إذا اتبعت الهوى، فإن كانت من قابيل قتلت فهي من غيره ممكن أن تعتدي وتكذب وتخون وتنافق وتسبب الفتن و تصول وتجول في ساحة الآفات الأخلاقية.
وهكذا تتواصل حلقات الصراع البشري في حركة الأنبياء والمرسلين (ع) وجهادهم ودعوتهم لأقوامهم للتوحيد وحق المنعم والقيم الأخلاقية المورثة للاستقامة والتكامل الإنساني والتنزه عن ملوثات النفس، فالقرآن الكريم عندما يقدم لنا هذا النموذج من الإنسان الكامل – وهم الأنبياء (ع) – له غايات لابد من التأمل والتبحر فيها، فما كانوا عليه (ع) من علاقة روحية بالله عز وجل أورثهم الطمأنينة بالتدبير الإلهي حتى في أصعب وأحلك الظروف، فما غادر الهدوء النفسي نبي الله نوح (ع) وهو يواجه الإعراض والجحود بآيات الله تعالى من أكثر أفراد قومه، وهدوء الجنان والثقة بالله تعالى لازمت النبي إبراهيم (ع) وهو في وسط نيران النمرود الملتهبة والصاعدة لعنان السماء، ولما ابتلى الله تعالى نبيه أيوب (ع) بالضر والمرض وفقدان النعم والخيرات، بقي ذلك العبد الشكور الذي يلهج لسانه بذكر الله تعالى والثناء عليه، وهكذا في قراءتنا الإجمالية لبقية قصص الأنبياء وما استعرضته الآيات الكريمة من مواقفهم الثابتة والشجاعة، لهي موضع تأمل وتأسٍّ لنجعلها ومضًا نيرًا في دروب الحياة ومتاهاتها، فلا نبتعد قيد أنملة عن سيرتهم الإيمانية وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كل ذلك خالصًا في سبيل الله عز وجل.
فمن ثمار تلك الحركة المعطاءة والرسم القرآني لحلقات البلاء والصراع والمواجهات بين الحق والباطل، تضعنا الآيات الكريمة على سكة العمل بإخلاص لوجه الله تعالى دون النظر إلى النتائج المترتبة على ذلك، فليست كل جولات المواجهة كانت تنتهي بانتصار راية الحق والهدى ماديا ولا النتائج المرجوة من هداية الناس واسترشادهم في النهاية بالحق، فالتاريخ يذكر لنا كيف كانت نهاية حركة كثير من الأنبياء (ع) تنتهي بإعراض أقوامهم عنهم مما أدى إلى حلول السخط والعقوبة الإلهية عليهم، وهذا لا يعني – بالطبع – تقصيرًا في جهود هؤلاء العظماء بل هناك عوامل نفسية وعجتماعية تطرح نفسها بقوة في حركة دفة النهايات لتلك الجولات، فتذكر الآيات الكريمة مجموعة من العوامل الباعثة على انحدار النفس البشرية نحو وحل الشهوات والخطيئة، فهناك عامل الطاعة والانقياد الأعمى للتقاليد الموروثة من الآباء والقابعة في المحيط الاجتماعي، وهناك عامل التعلق بالأموال والوقوع في حبال أسرها كما وقع ذلك من قارون، فجعل جل عمره منهمكا في جمع وتكوين الثروة الطائلة ولو وقع في حبائل النفس الأمارة بالسوء والكفر بآيات الله تعالى، وعامل الاعتداد بالقوة والأتباع والجنود الكثر كما كان ذلك من فرعون، وهناك عوامل عقائدية واجتماعية أخذت بالأفراد والمجتمعات نحو الانحراف، وذكرها يمثل قبسًا تنويريًا لعقولنا وتهذيبًا لسلوكياتنا وتصرفاتنا بعد أن أدركنا ما للآفات الأخلاقية من أضرار ونتائج كارثية.