الوجاهة والمحتوى الفارغ
سيد علي السلمان
يصعب على النفس أن تتلون بل وأن تكتسي بما لم تألفه أو حتى تتآلفه من انسلاخها من فطرتها، لأن البون كبير وواسع بين واقعها الخلقي والفطري وبين واقعها المفتعل المتلبس بالشخصية المزيفة، والتي هي في الحقيقة لا تعكس واقع ومصداقية صاحبها قدر ما تعكس تصاغر تلك الشخصية عن مكانها المفروض التي يجب أن تكون فيه.
بل وحتى إذا أُجبرت على ارتداء تلك الألوان المستعارة فإنها ستظل تعاني أيما عناء حيال ذلك الادعاء والتقمص حتى يأتي وقتها المناسب في خلاصها من ذلك التقمص الزائف.
إن شهوة البروز العارمة التي تجعل من هذا الفرد أو ذاك محط أنظار المجتمع وتسليط الأضواء غالباً لا تحمل محتوى يعتد به، لفراغ ذلك المحتوى من مخزونه، فالقضية منفية بانتفاء الموضوع كما يقول المناطقة، وعلى العكس من ذلك، سيما أن البعض ممن ابتلى بتلك البلوى بحيث أنه لا يدرك ما أصابه وما ابتلى به وبالتالي فهو لا يعي ماهي حقيقة النظرة الواقعية الاجتماعية إليه.
إن من أكثر ما يميز تلك الشخصية عن غيرها أنها شخصية فارغة قليلة الفعالية والنشاط لقلة كفاءتها، فيرى واقعها أجوف مما يمكنها من حدوث طنينها الخاص ليتوهم صاحبها على أنها شخصية مرموقة ذات منزلة رفيعة ومكانة عالية، على أمل أن تحضى باحترام وتقدير الجميع وهي على عكس واقعها الحقيقي تماماً.
وفي الحقيقة فإننا إذا تتبعنا شخصيات الطرف المغاير وهم شخصيات العطاء والبذل، وأهل العلم والتحصيل، وأصحاب السجايا الحميدة والخصال الطيبة وما ومقدموه للمجتمع ممن لا يُعيرون الإعلام الفارغ أي اهتمام فإننا سوف نجد أن تلك النماذج الحية والنشطة والفعالة والمؤثرة قد تجاهلت نفسها نكراناً لذاتها مقابل تحقيق أهداف تلك الأعمال الجليلة فلا يسمع لها صوتاً أو حسيساً أو طنطنةً يتشدق بها المتطفلون تطبيقاً لمقولة: (نكران الذات من أجلى وأسمى الصفات).
لقد سجل لنا التاريخ في أرشيف سجلاته رموزاً وشخصيات بارزة في العديد من مجالات الحياة، منها الاجتماعية والدينية والعلمية وغيرها ممن أناروا الطريق للأجيال الصاعدة وممن أثروا العقول الواعدة وأرشدوا تلك النفوس الضالة وأسسوا تلك الصروح العلمية العالية أيما تسجيل، فلقد سجل لنا أسمائهم كرموز وغطارفة دهرهم التي تعتز بهم الأمة، وكطود نجاة في عباب الموج العاتي دون أن تأخذ ماكينة الإعلام نصيبها في الإشارة إليهم لا بالتصريح ولا بالتلويح، وبالرغم من ذلك فإنهم خلدوا قصراً كما خلد نهجهم فكانوا سرج الظلمة يهتدي بهم حاطب الليل و نبراساً يحتذى بهم من ضل عن جادة الطريق.
ونحن وفي عصر وسائل التواصل الالكتروني الخادع بشتى أنواعه والتي جعلت من التفاهة والسفاهة مادة دسمة تلعق كما يلعق العسل المسموم فإننا يجب أن نُشير إلى خطورة تلك الوسائل التي جعلت من ذلك الشخص التافه مشهوراً يسرح ويمرح في تسفيه عقول الناس.
ربما تنطلي على البعض أشكال شخصيات الوهم الكاذب وخاصة على السذج من الناس ممن تبهرهم أضواء فلاشات الكاميرات والخلفيات المفبركة وألوان الصور المفلترة فهم يدركون (أصحاب الوهم الكاذب)، أن تسابقهم على التقاط تلك الصور مع طلبة رجال الدين أو مع أصحاب النفوذ؛ هي إضافة جديدة إلى رصيد شهرتهم الكاذبة للحصول على الوجاهة الاجتماعية المفتعلة، ولكنها لا تمر مرور الكرام على الحاذق الواعي ممن يغربل تلك الشخصيات ويفرزها على أساس القيمة الذاتية التي تميزها عن غيرها ومكانتها ومنزلتها وأثرها وعطائها في المجتمع، لا على أساس بياض الملبس وبريق الساعة ولون البشت المزركش، (خير الناس أنفعهم للناس).
يسعد المجتمع بجميع أطيافه ومكوناته بالعمل الخيري الذي يصب في خدمة أبناءه وأفراده كتوفير احتياجاته الملحة للمعوزين من إنشاء جمعيات البر الخيرية ومن بناء المساجد ودور العبادة والمراكز الثقافية والتوعوية وجعل الأوقاف النفعية والمجالس الحسينية وغيرها، سواء كان ذلك من الدعم العيني أو المادي أو المعنوي، فترى أصحاب تلك الأيادي البيضاء ومبسوطي الراح نراهم غائبون عن مجالس الشهرة والثناء بل وحتى عن صالات التكريم، لما رأوا أن ذلك لا يزيد من مكانتهم و قدرهم أو منزلتهم عند الناس علواً إلا حُطَ من شأنهم عند ربهم ومحق جزيل أجرهم عند خالقهم وهم على وعي تام من ذلك كله، لقد أدركوا معالي الخلق الرفيع وإخلاص العمل الصالح، حتى نراهم لا يقبلون الثناء أو المديح أو حتى الإيماء والإشارة إليهم لا من قريب ولا من بعيد فتراهم بين الناس كالناس لا تفرق بينهم وبين غيرهم, يجالسون الفقراء ويكسوا مجالسهم التواضع بحيث ينتهي بهم الجلوس, فنرى آثارهم وأعمالهم صوراً مشرقةً على محيا وجوه الفقراء والمحتاجين دون معرفة أشخاصهم أو حتى أسمائهم , وإن كان ذلك ممن يسهل عليهم أخذه و تقبله, إلا أنهم آثروا ما عند الله على ما عند الناس فحلقت نفوسهم في أسمى آيات العز والكرامة, وهم قلة من عددهم والذين أشار إليهم الحق سبحانه في قوله: ( فشربوا من إلا قليل منهم )
أما فئة بوم الصور وهي الفئة المتمكيجة والتي نراها هذه الأيام تحوم على موائد صالات المناسبات والأفراح لتشبع نهم بطنها وتحتسي فيها القهوة على هامش الابتسامة الساخرة بل وحتى في مجالس العزاء التي نراهم فيها، فإنها فئة لا ترى حقيقة شكلها في نفوس الآخرين قدر ما ترى أشكالها في مرايا المنزل، فهي لا تؤمن بالمضمون والجوهر قدر ما تؤمن بالشكل والمظهر، ولذلك نرى صيتها كصوت الدفوف الفارغة التي لها ضجيج أكبر من حجمها وهي خاوية المحتوى والمضمون، فشتان بين الصورتين.
إذن فالوجاهة التي يمنحها المجتمع نتيجة الوهج الخادع والهالة المستعارة ماهي إلا زبد يطفوا على الماء فيذهب جفاء لخفة وزنه وخواء جوفه فلا نفع فيه ولا فائدة ترجى منه، وهذا ما نجده نموذجاً حياً يحكي لنا واقعنا المسكين.
أما الوجاهة الحقيقية فهي كاللؤلؤ الثمين في تلك الاصداف المحكمة الانطباق والتي لا تجدها إلا في أعماق البحار، لها ثمنها وقيمتها، نفعها وفير وثمنها كبير، موصولة بالمؤثر والأثر، فهي عملة النقد النادرة التي لا نراها معروضة في أسواق البخس.