قطاف من بستان الإمام الجواد (ع)
السيد فاضل آل درويش
لقد كانت شخصية الإمام الجواد (ع) بارزة بشكل ملفت منذ صغره لما كان يتمتع به من آيات الحكمة والمعرفة وسمو الأخلاق، وقد نال شهادة الإعظام والإعجاب من مختلف الشخصيات العلمية لما رأوا منه من نبوغ علمي منقطع النظير، فقد كانت المسائل تنهال عليه من كل جانب وهو يجيب بلسان طلق بفصل الخطاب، وصغر سنه فيه دلالة على ما يتمتع به من مواهب ربانية وتأييد ظهر في شخصيته البعيدة – كل البعد – عن اللهو والترف منذ نعومة أظافره، وهذا ما يفسر كثرة الشهادات من العلماء – على اختلاف توجهاتهم – بما كان عليه من مستوى علمي وتربوي متميز ولا نظير له في أهل زمانه.
ولقد كانت جلساته العلمية في المسجد النبوي ملفى ومهوى عشاق المعرفة، وقد كانت المسائل على تنوعها في الحقول الفقهية والعقائدية والقرآنية وغيرها موضع إجابة من الإمام (ع)، ولقد أحصي عدد تلك المسائل بالآلاف ألقيت على الإمام (ع) في مجالس وأوقات متعددة.
كما أن التشكيك في قدراته العلمية من قبل المشككين بسبب صغر سنه بعد وفاة أبيه الإمام الرضا (ع) قد تبددت وانماثت بعد أن امتاز (ع) وبرز في جلسات المأمون العلمية، وما كان يطرح فيها من مسائل مختلفة وبحضور كبار العلماء والفقهاء من مختلف النحل والملل، فكانت الشخصية التي تتميز بالجواب على كل مسألة تطرح مع بيان الاستدلال والمستند عليها هي شخصية الإمام الجواد (ع)، مما ولد قناعة لدى الجميع بأن الإمام (ع) له مستوى علمي غير اكتسابي، إنه (ع) مرجعية رشيدة في المسائل والقيم الأخلاقية التي يؤخذ منه معالم الدين وإدارة شئون الناس الاجتماعية والاقتصادية.
لقد كان أشهر ألقاب الإمام محمد بن علي (ع) هو لقب الجواد وذلك لكثرة عطائه وبذله في وجوه الخير، وهذا لا يعني صفة اختصاصية له عن بقية الأئمة (ع)، بل هي إشارة إلى سمة بارزة في زمانه وذلك لكثرة المحتاجين في مختلف الأمصار والأقطار، والإمام الجواد (ع) تحمل مسئولية تفقد أحوال الناس والسؤال عن احتياجاتهم؛ ليكون عونًا لهم ومسعفًا لهم في ضنك الحياة المعيشية؛ وليصنع الإمام (ع) النفوس على مبدأ العطاء والمواساة والمشاركة الوجدانية مع أفراد المجتمع الضعفاء، وهكذا في منهج الإمام الجواد (ع) يتحرر الإنسان من أغلال الأنانية والبخل، فينطلق في عالم التكامل الإنساني عندما يجد أن سعادته تتحقق بتقديم شيئ لمحتاج وبلسمة آلامه المادية والنفسية.
ورد أن داود بن القاسم الجعفري قال: … وأعطاني أبو جعفر ثلاثمائة دينار في صرّة وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمّه وقال: (أما أنه سيقول لك دلّني على حرّيف يشتري لي بها متاعًا فدلّه عليه). قال: فأتيته بالدنانير فقال لي: (يا أبا هاشم دلّني على حرّيف يشتري لي بها متاعاً) ، ففعلت )(الكافي ج ١ ص ٤٩٥).
من خلال هذا الموقف وغيره نستدل على أن الإمام الجواد (ع) كان لصيقًا بأحوال الناس ويشاركهم همومهم واحتياجاتهم ويعمل ما استطاع على مساعدتهم على وطأة الفقر الثقيلة.
وما أعظمه من درس في الإنفاق نتعلمه من الإمام الجواد (ع) وهو الإخلاص والسرية؛ حفاظًا على كرامة وعفة المحتاج فلا يراق ماء وجهه ولا يتأذى بمعرفة الآخرين بخصوصيات وضع بيته المادي، فأولئك الذين يعشقون تسليط الأضواء عليهم ليشار لهم بالبنان في إنفاقهم ويصبحون حديث الساعة، لا يقدمون مساعدة – في الحقيقة – إلا ليمجد ذكرهم بين الناس ولو كان ذلك على حساب هتك خصوصية المحتاجين، بينما يؤكد الإمام الجواد (ع) على المبدأ القرآني: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ … }{ البقرة الآية ٢٦٤ }.
وختامًا يبين لنا الإمام الجواد (ع) بأن الإنفاق والمساعدة لا يقتصر على الجانب المادي فقط، فالإمام (ع) يحث صاحبه على أن يبحث لابن عمه المحتاج على عامل يشتري له ما يحتاجه من المتاع، فكل مساندة مالية أو وحدانية تخفف عن المحتاج همه ولو بالكلمة الرقيقة الصادقة تواسيه في أزمته تعد إنفاقًا.