سوء الظن ينذر بأزمة ثقة
السيد فاضل آل درويش
ورد عن الإمام السجاد (ع) فَإنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَواقِحُ الفِتَنِ، وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنائِحِ وَالمِنَن )( بحار الأنوار ج ٩١ ص ١٤٧ ).
نلاحظ في التعاليم الإسلامية ما يثبت معالم التماسك والتعاون والاستقرار في العلاقات بين أفراد المجتمع، وذلك ببيان الأسس التي يعتمد عليها ما يخلق جو الثقة والتكاتف من جهة، والإشارة إلى العوامل العدامة المؤدية إلى تفكك عرى تلك العلاقات والمسببة لترهلها واضطرابها، وفي هذا التوجيه من الإمام السجاد (ع) الذي ضمنه في الدعاء – مناجاة المطيعين – كأحد مفردات المنهج الأخلاقي والتربوي الذي يرسمه ويدعو له، فالثقة بين أفراد المجتمع حالة تشير إلى الطمأنينة والأمان من الفرد على شخصيته وخصوصياته وتصوراته من دعاوى الأوهام والاتهامات والافتراءات من غيره بغير دليل يستند إليه، وسوء الظن من أقصر المسارب الشيطانية وأقواها مفعولًا في تدمير الروح الإيمانية عن الفرد من جهة وتقطيع العلاقات بين أفراد المجتمع واستبدالها بالبغضاء والقطيعة من جهة أخرى، وذلك أن من يسيء الظن بالآخرين ينطلق من تصورات مريضة وتوقعات السلبية ورؤية الوجه المظلم من أفعال الآخرين، فعقله وقلبه تزدحم فيه التصورات السيئة لكلمات ومواقف الآخرين بما ينعكس عليه في ردة فعله من ذلك، بل تتطور الحالة المرضية عنده فينقل ويبث سمومه لمن حوله ويحاول أن يقنعهم بالوجه الشرير لما يصدر من غيره، وهذا دون شك يقدح شرارة نار الفتنة والبغضاء بين الناس ويصاحبه مجموعة من الآفات الأخلاقية الملازمة له، فصاحب الظنون السيئة يعتمد في نقل سمومه على الغيبة والنميمة والضرب تحت الحزام، وغرضه النهائي بث الكراهية ونشرها بين الناس بعد أن تتداول الألسن مجموعة من التهم الباطلة، ويعمل جاهدًا على قلب الصور الحقيقية من خلال مزجها بأوهامه المريضة، ومن خلال البحث عن مادة ومعلومات تغذي أوهامه لا يتوقف عن التجسس على خصوصيات الآخرين لعله يجد فيها ما يبثه.
فالتركيبة النفسية له بلا شك تتكون من خليط من عقدة النقص والحسد والعداوة للناجحين؛ لينطلق منها في تشويه صورة وسمعة الغير ومحاولة فبركة الأحكام المتسرعة، كما أنه ينظر لنفسه بعين الاستعلاء والنرجسية والخلو من العيوب، وأما بالاتجاه الآخر فهو يقلل من شأن الغير ويقزمهم ويحقر كل معروف وإنجاز لهم، كما أنه يعمل على تكوين بيئة مريضة يتزعمها ومكون أفرادها على شاكلته ويعانون من نفس أمراضه وأوهامه، ولا يمكننا توقع مدى الأخطار والخسائر الفادحة التي يمنى بها المجتمع جراء تصرفات أصحاب الظنون، إذ يعملون بكل قوة على تقطيع أوصاله ونسيجه وهدم جدارية الثقة والتعاون والتكاتف بين أبنائه وتحول علاقاتهم إلى عداوات ضارية.
ويعول في مواجهة هذا المرض الأخلاقي على القيم والتوجيهات المقدمة للنشء، من خلال بيان الإثم الكبير الذي يستحقه من يسيء الظن بالغير ويحاول أن يشوه شخصيته بأوهامه المريضة، كما أن المجتمع الواعي والرشيد يقف سدًا منيعًا أمام ترهات هؤلاء فلا يقبل منهم الكلام على عواهنه ودون دليل، بل يتطلب اتخاذ موقف أو قرار ما يؤيده بشكل واضح ودون الركون إلى التمويهات والافتراءات، وأي حوار حول فكرة أو موقف ينبغي أن يجري في إطار الاحترام وتفهم رأي الآخر بعيدًا عن التعصب والعاطفة العمياء التي ينساق خلفها البعض فيحور ويعدل في الموقف بحسب مزاجيته ومواقفه من الآخرين وهي بعيدة عن الواقع ، فمجرد المناقشة وتداول الأفكار والمواقف – دون المس والقدح بالشخصيات – يعد أمر إيجابيا ينمي ملكة التفكير ويوصل الجميع إلى تصورات ناضجة.
الوعي المجتمعي هو السد المنيع في وجه من يحاول العبث باستقراره وتكاتف أفراده، ومثل تلك الشخصيات المريضة الهادفة إلى نيل مكانة اجتماعية مع القفز على رؤوس الجميع، والذي ينطلق من أحقاده وقلبه الأسود واعتداده الفارغ بنفسه لينال من الآخرين ويزرع بينهم الكراهيات بعد أن دس بينهم أوهامه وظنونه السيئة، ولن يذهب جهوده الشريرة أدراج الرياح إلا الصراحة والاحترام بين أفراد المجتمع، وعدم السماح لهؤلاء المرضى بأن يدقوا بينهم إسفين الأحقاد وترامي الاتهامات.