دعاء الإمام الحسين صبيحة يوم عاشوراء (١)
السيد فاضل آل درويش
يجلي الإمام الحسين (ع) حقيقة الدعاء ومدلولاته وأبعاده بعيدًا عن تخرصات بعض العقول الضيقة، فهناك من يتصور الدعاء بهيئة جامدة ومجرد تلفظ بالكلمات تعبدًا، بينما الدعاء ومضة نيرة وجناح قوة يحلق به المرء في فضاء التحديات والصعاب، يسكب على فكره الوعي والفطنة والتفكر في عواقب الأمور، ويورثه الاتزان النفسي والسلوكي، فيدخل المرء في عملية إعادة ترتيب أوراق حياته بعد التشوش والتخبط والحيرة التي تتسرب إلى حياته فيغدو ضعيفًا ومحتارًا في مواجهة العراقيل والعقبات المانعة من تحقيق أهدافه، فهذه المعاني والمضامين القيمة للدعاء تدفع نحو التسلح به مع الصبر والمثابرة في ميادين الحياة وعلى مختلف الأصعدة.
ولا يقتصر الدعاء على جانب الظروف الصعبة التي يقاسي منها العبد والشدائد المؤرقة له، وإنما هو اتصال واستمداد القوة والصمود والتوفيق للخطى الثابتة في مختلف الظروف السارة والضارة بالنسبة له، فلا يستخف عقله ويصاب بنشوة الانتصار عند تحقيق إي إنجاز، بل يجعله سائرًا في مداه الطبيعي وهو عمل مثابر مكلل بالتسديد والعناية الإلهية، إذ هو محض الافتقار والحاجة للغني المطلق مهما بلغ إبداعه الفكري وحراكه المهاري، ولا يسقط في أتون اليأس عندما يسقط أرضًا بسبب إحدى العقبات والموانع المعرقلة لمسيره، فهو إرادة قوية متحركة في جميع اتجاهات عمله الحياتي مستعينًا بعد الله تعالى على بصيرته وفهمه للأمور والأحداث، فهو يشعر بوجوده متى ما كان في حركة جوهرية وتكاملية في جميع أوقاته، يعمرها بطاعة الله تعالى وتحويلها إلى مراحل وخطى ينتقل من واحدة إلى أخرى، وهذه الهمة العالية والطموح عنده لا يأتي من فراغ بل هو نتاج أهم مضامين الدعاء وهي الثقة بالله تعالى واليقين بأن مجاري الأمور تقع تحت سيطرة وتدبير الحكيم القادر عز وجل، وهذا سر روح التفاؤل والطمأنينة الساكنة في قلب المؤمن المتعلق بالله تعالى.
والإمام الحسين (ع) مصدر اقتداء للمؤمنين يسيرون على نهجه العملي في علاقته بالله تعالى، وإناطة وتفويض كل أمورهم بيد القدرة الإلهية تصرفها بحسب حكمته وعدله، فالمؤمن يولي أهمية خاصة واهتمامًا كبيرًا بالطاقة الروحية والإيمانية التي تهبه القوة والصبر بشكل متجدد، فالمحطات المؤلمة وتسلسل المشاكل التي جعلها سبحانه سنة في حياة البشر، تستنزف طاقته النفسية وقواه وتسحب منه جزءًا من همته في طريق العمل، ومتى ما لاذ بمحراب الطاعة والعبادة وأفرغ نفسه لمناجاة خالقه ومخاطبته بأفضل وأنقى الألفاظ من خلال الأدعية الواردة عن المعصومين (ع)، بدأ في استرجاع طاقته وهمته تدريجيًا بعد صفاء ذهنه وقلبه من مشوشات الهموم والآلام النفسية والعاطفية، فبعد الدعاء هناك مخرجات تتجلى في فكر وسلوك الداعي ربه، وتتمثل تلك المخرجات في زيادة يقينه بأن الأمور مهما كانت منفرجة وسالكة بالنسبة له فهذا لا يعني أنه في حالة استغناء عن القدرة الإلهية وإلا فإنه يصاب بالآفات الأخلاقية كالغرور والأنانية، ولا في حالة الشدة والبؤس قد تخلى عنه ربه وبقي يقاسي تلك الهموم لحاله، بل هذه الحالة من الضراء تدعوه إلى أن يهرع إلى ما يخفف عنه كربه ويعيد له توازنه، ولن يجد معينًا كمحراب الدعاء والمناجاة يبث من خلال هذه القناة همومه لمن يستمع له في كل أحواله ومن يقدر على تغيير حاله، ويتعمق في تفكيره وعيًا ونضجًا من خلال تأمله في فقرات الدعاء وما يذكره المعصوم (ع) من صفاته وآلائه تعالى، إذ أن محتوى تلك الأدعية زاخر بالمعاني والمضامين العالية والأسلوب المتسم بالفصاحة والبلاغة، والتي تنم عن ذلك الأدب الرفيع في الخطاب مع الذات الإلهية وبيان أسمائه الجمالية والدعوة إلى التخلي بها، وبيان أسمائه الجلالية التي توقف العبد على جانب العظمة والقاهرية له عز وجل، مما يوقف المرء وقفة متزنة صائبة ومعرفة تورثه الخشية من الله تعالى وتحذره من عواقب الغفلة والاستجابة لهتاف الشيطان الرجيم والأهواء من النفس الأمارة بالسوء.