دعاء الإمام الحسين صبيحة عاشوراء (٤)
السيد فاضل آل درويش
مضامين عالية للدعاء:
الأدعية الواردة عن المعصومين (ع) تتضمن مجموعة من القيم والتوجيهات التربوية والمعرفية التي ينبغي التعامل معها بعد تأملها وتدبر معانيها كمفردات من منهج الحياة ومفاتيح التعامل معها في مختلف الميادين الثقافية والاجتماعية والنفسية، وتلك المعاني والمفاهيم متى ما استوعبناها ووعينا مداليلها شكل ذلك ومضة في قوة شخصياتنا، إذ تمس تلك المعاني الجوانب العقائدية وترسم معالم العلاقة الصحيحة مع العظمة الإلهية، فتصوغ مفاهيم القدرة والهيمنة والتدبير الإلهية لهذا الكون وما فيه، ومهما بلغ طغيان بعض النفوس فاعتقدت وهمًا بأن لها القدرة على فعل كل شيء، فتهدد بالبطش والتخويف لمن يخالف مرتآها وتصوراتها، فإنه ينماث ويتلاشى مع قراءة الدعاء المورثة لاعتقاد يقيني بأن محاري الأمور بيد الله تعالى، وما على المؤمن الكيس إلا المضي في طريق عمله مهما واجه من صعوبات وعراقيل تشكل وضعًا طبيعيًا في طريق كل إنسان، فيواجهها بقوة إيمانه بأن الله تعالى لا يخذله أبدًا، ومهما كانت النتائج المترتبة على خطواته فلا يبالي بها ما دام على الحق وطريق الهدى، وهذه الومضة النورانية يرسمها الإمام الحسين (ع) في نفوس المؤمنين، ويعلمنا السر في المواقف القوية لمن واجهوا الطغاة في كل زمان كما كان ذلك من فتية الكهف، وكذلك السحرة في موقفهم من تهديد فرعون لهم بالقتل، ولكنهم أبدوا الصمود والثبات على مواقفهم وتمسكهم بإيمانهم ورفضهم للتنازل أو المهادنة، وفي استمرار لهذه المواقف الشجاعة والبطولية كان موقف الإمام الحسين (ع) وتمسكه بقيم الدين ورفضه لمنطق التهديد، والسر في ذلك يكشفه الإمام الحسين (ع) في دعائه حيث أن اللجوء إلى القوة المطلقة والتسليم بقضائه عز وجل والثقة بوعده لهم بأعلى الدرجات في يوم القيامة، هو ما صنع تلك النفوس الشامخة التي مهما بلغت أمواج الزمن العاتية وأحاطت بهم الهموم ودورات الزمن الصعب، فإنهم كالجبال الرواسي لا تؤثر أبدًا في مواقفهم التضحوية القوية، وهكذا يكشف لنا الإمام (ع) في هذا الدعاء أحد أسرار واقعة الطف الخالدة، بما يتعلق بصمود تلك الثلة المؤمنة وثباتهم أمام زحف الآلاف باتجاههم لاجتثاثهم، لقد آثروا ما عند الله تعالى فأعقبهم سبحانه الخلود والتعظيم في النفوس الحرة والمنصفة.
الدعاء مدرسة تربوية يستقي منها المؤمن المنهج المعرفي والسلوكي الذي يتعامل به في الحياة وعلى مختلف الأصعدة، كما أن تقوية العلاقة بالله تعالى والتعرف على جوانب عظمته يورثه الهمة العالية وطهارة النفس من الرذائل، إذ أن الدعاء برنامج أخلاقي يدعو للتخلي بالفضيلة والخصال الحميدة، وهذا ما كان يميز أصحاب الإمام الحسين (ع) والذي يشهد لهم الجميع بأنهم كانوا على أعلى درجات الإيمان والتقوى والانقطاع إلى الله تعالى، ذكر ابنُ كثير عن الحارث بن كعب وأبي الضحّاك، عن عليّ بن الحسين ( الإمام السجاد (ع): باتَ الحُسَينُ عليه السّلام وأصحابه طولَ لَيلِهِم يُصَلّونَ ويستغفرون ويدعون ويتضرعون).
فأي نفوس بين يدي الإمام الحسين (ع) كان هؤلاء العظماء، حيث أنهم يرتقبون الساعات القادمة لشهادتهم ورحيلهم من الدنيا ولم يهد قواهم أو يوهنها أو يصيبهم بالحيرة والتردد والانذهال، حيث أن أحدنا لو أصابته مشكلة تؤرقه وتشغل باله تراه عائفا لكل شيء جميل من حوله ويشعر بالشلل عن التفكير الناضج وحتى إن صلى فإن عقله يغيب عن معاني الصلاة، وهؤلاء في ظل هذا الظرف غير المسبوق ينفصلون عن الدنيا ويقبلون على الله عز وجل، فيجدون لذتهم في مناجاة الله تعالى وذكره والوقوف بين يديه.
القوة الروحية والإيمانية وتأثيرها في خلق الهمة العالية وتنشيط قوى الإنسان قد يجهلها البعض، ولتقريب الصورة فلننظر إلى الجسم بعد بذل جهد بدني كبير، ألا يصاب الإنسان بالضعف والتعب بعد استنزاف قواه، فيطلب الراحة والهدوء كي يستعيد قواه ويعود لميدان العمل مرة أخرى، وكذلك الدعاء قوة تمنح الروح طاقة في مواجهة الصعاب، فالاتصال بالله عز وجل يهون كل المصاعب ويساعد الإنسان على تحمل المتاعب دون تبرم.