عرفناه صغارًا وكبارًا سماحة آية الله الشيخ مهدي المصلي
زكريا أبو سرير
الذكريات محفورة في رأسي عن سماحة آية الله الشيخ مهدي المصلي عندما كنا صغارًا في حي الديرة، حيث كان منزله العائلي وهو عبارة عن تجمع عائلة المصلي الكرام، وهو شبيه لما يطلق عليه اليوم بـ (البلك) أي مجموعة منازل متلاصقة بعضها بعضًا، ولها بوابة خشبية كبيرة وثقيلة وجميلة ورائعة، وسكانها جميعهم إخوة المصلي ينحدرون من أب وأم، وهي قريبة لمنزلنا، بل لا يبعد عنها سوى خطوات قليلة لا تتجاوز الأمتار، فكنا نلعب ونلهو بألعابنا الشعبية أمام منزلهم مع رفقائنا وهم صبية حي الديرة، وغالبيتهم من أعمارنا أو أكثر بسنوات قليلة، وكان أخوه سليمان بعمرنا أو أكبر بقليل، وكان من رفقائنا الدائمين نلهو ونلعب معًا في تلك الزرانيق الجميلة بروائحها المطبخية المختلفة المنبعثة من تلك المنازل المجاورة والملتصقة والمباركة.
كان والده الوقور حجي حسن المصلي المعروف فيما بعد بكنيته المشهورة بأبي الشيخ مهدي بعدما التحق ابنه المرحوم الشيخ بسلك الدراسة العلمية الحوزوية وارتدائه زي العلم، أطلق عليه أبناء المجتمع أبا الشيخ مهدي. كان والده -رحمه الله الذي رحل عن عالمنا قبل سنوات قليلة- شعلة من الطهر والخلق والإيمان لدرجة ومن دون أية مبالغة يجبرك شخصه وخلقه سواء كنت صغيرًا أو كبيرًا على احترامه ومحبته وتوقيره؛ لتمتعه بحسن الخُلق مع الصغير والكبير، بل لا تجده يومًا عابسًا في وجه أحد قط، كان هو من يبدأ بالسلام والتحية، وكان كلامه قليلًا وصوته منخفضًا ممتلئًا بالأدب والاحترام للآخرين، فضلًا عن طول عبادته التي كان يؤديها في المساجد بين راكع وساجد وقارئ وتالٍ مبتسمًا في وجوه المصلين والقادمين للمسجد، وبالخصوص ما كنا نراه صغارًا وكبارًا عند ترددنا إلى مسجد الرفعة الواقع في حي الديرة التي كان لصيقَ بيته مباشرة، إذ كنت أشاهده في جميع الفرائض اليومية. كان يحضر قبل أوقات الصلاة بمدة طويلة لأداء النوافل والمستحبات وقراءة القرآن الكريم، كان يحرص على صلاة الجماعة، وكان وجهه يُشرق بالنور ومشيته كلها الوقار ولسانه لا يفارق ذكر الله سبحانه وتعالى.
وكان أحد نتاج تربية الحاج أبو الشيخ مهدي هو سماحة آية الله الشيخ مهدي المصلي رحمهما الله، إذ لا غرابة عندما يظهر المستور عن طبيعة شخصية رائعة كانت بيننا، وهي في غاية الخلق العالي والصفات الحميدة. له ابن كالشيخ مهدي رحمه الله، إذ اتسمت شخصية سماحة الشيخ المهدي منذُ كان شابًّا بميزات خُلقية جميلة ورائعة ورثها عن أبيه وتعاليمه التربوية التي استاقها من منابر أهل البيت(ع)، فكنا نراه دائمًا مبتسمًا متوجهًا للسلام والتحية كأبيه رحمه الله مبادرًا بالسؤال عن جيرانه وأقرانه من العائلة متفقدًا أحوال الجميع، فما كان ينظر إلينا بأننا أطفال لا يبالي بهم أو بقيمتهم الاجتماعية، بل كان يشعرنا بأننا أبناء المستقبل.
ومما كانت (وما تزال) تختزله ذاكرتي الطفولية الجميلة جلساتنا معه في مسجد الرفعة الصيق لمنزلهم المبارك، وهي جلسات إيمانية؛ كان يعلمنا فيها الأحكام الشرعية والدينية من أحكام الوضوء والصلاة وما شابه ذلك من الأمور الواجب تعلمها وفهمها. كنا مجموعة من الأطفال لا تتعدى أعمارنا السابعة إلى العاشرة ، فكان رحمه الله يهتم بنا كثيرًا ولا سيما في الجانب الديني والعبادي، ويريد من ذلك تربيتنا على تلك التوجيهات الدينية بتعلم الصلاة وأدائها في أوقاتها وبشكلها الصحيح، وبتحسين سلوكنا الأخلاقي والاجتماعي المرتبط بثقافة أهل البيت عليهم السلام، عبر ما كان يورده علينا من آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة ومن أقوال أئمتنا الأطهار عليهم السلام، وكان يقوم بهذا الدور الديني والاجتماعي قبل أن يرتدي العمامة، بل كان يرتدي الغترة البيضاء بجسمه النحيف وقتها، وكان يتمتع بقامة جسدية جميلة في الشكل والطول مما أضاف على شخصيته هيبة وحسن جمال، وزادها في ذلك وقاره وأدبه الجميل والراقي مع كل فئات المجتمع.
وكما ذكر في التأبين من عدة جهات دينية من الذين زاملوه في الدراسة الحوزوية أو ممن عاشروه في حياته المباركة؛ إذ كان شغفه للعلم والمعرفة والبحث عنه أينما كان على هذه الأرض المعمورة، يتنقل من بلد إلى بلد في سبيل التحصيل العلمي دون كلل أو ملل، مع ما يجده من صعوبات وتحديات في العيش والأمان وهو برفقة عائلته، ولكن لم تكن تلك العقبات حجة عنده ليقف مكتوف اليدين دون الاستمرارية في طلب العلم والمعرفة وفي خدمة الدين والشريعة، بل كان له الجرعات التنشيطية لاستمراره في بناء مشروعه العلمي، وعندما كنا صغارًا لم نره يومًا إلا وكان الكتاب في يده بل هو رفيقه الذي لا يفارقه أبدًا حتى أصبح الكتاب شيئًا منه وهو منه، فلا غرابة أيضًا عندما نرى نتاجه العلمي والمعرفي الغزير والواسع من المخطوط وغير المخطوط في الفقاهة وغيرها من المعارف العلمية التي ورثها لطلبة العلم الأكارم لكي يكملوا المسيرة ويكتشفوا المزيد من علوم آل محمد (ص).
وسماحة آية الله الشيخ مهدي المصلي كان مثلًا رائعًا لنموذج طالب العلم والعالم والعامل بعلمه وأخلاقه العالية والمميزة في الوسط الاجتماعي والديني، وما يحتاجه كل مجتمع هو إيجاد القدوة الحسنة في كل أبعاد حياتها ولا تكتفي بالاهتمام ببعد واحد من حياتها قد لا يخدم إلا نفسه ولا تتجاوز عتبة بيته. إن هذا المطلب (إيجاد شخصية علمائية كالعلامة الشيخ مهدي المصلي) لكي تكون عاملًا مؤثرًا حقيقيًا في نفوس الآخرين دون تكلف منها، بل تكتفي بالنظرة الأخوية والابتسامة الإنسانية لتجذب من حولها قبل أن تتكلم بحرف واحد؛ لهذا فخسارتنا العظيمة والكبرى عندما نفقد مثل هذه الشخصية الربانية الصالحة والطاهرة.
ولمثل هذا العالم الجليل لا بد أن تكون خاتمته هكذا مشرفة تليق به، حيث كان مهاجرًا في سبيل الله ولأجل العلم ورفع راية الدين، مجاورًا لرسول الله وفاطمة الزهراء والأئمة الأطهار عليهم جميعًا سلام الله في الدنيا والآخرة، وزاده الله شرفًا ومكانًا عندما ارتحل إلى جوار ربه وهو في أعظم بقعة على الأرض وهي مدينة رسول الله المصطفى (ص)، عندما زينت له ملائكة الرحمن البقيع الرغد لكي يُزف منه إلى جنات الخلد مع نبيه محمد وآله الاطهار عليهم السلام.. الفاتحة المباركة على روحه الطاهرة.