استنطاق الإنسانية النبيلة
السيد فاضل آل درويش
كثيرًا ما يجري الحديث حول الخريطة العامة والتاريخ الممتد للحضارة الإنسانية، وتلك الإنجازات والمساهمات في تقدم المجتمعات وازدهارها، وما يتمتع بها أفراده من مستوى فكري رفيع وآداب وقيم وسلوكيات تميز الخلقة المكرمة للإنسان، ولا بد في خضم تلك الأحاديث والتنظيرات يجري سرد تلك الشخصيات العظيمة التي أسهمت في مختلف الحقول والتفرعات المعرفية والمهارية التي دونت في سجل التاريخ البشري بأحرف ذهبية نقشت في الأذهان على مر العصور وتتابع الأجيال، وهنا لا بد من سردية لسيرة ومنهجية كتبت مفرداتها بأغلى الكنوز والأثمان، لما كان لها من تأثير كبير يتراكم وينمو مع مرور الأيام ولا يأفل ولا يخبو ضوؤه، بل على العكس يتألق ويثمر بقدر الموجدات الإنسانية التي اكتسبت تلك الومضات واللآليء وتتحرك وفقها بألق في ميادين الحياة.
فاليوم تعاني البشرية من أزمات فكرية وسلوكية واجتماعية واقتصادية وغيرها وتئن وجعًا من آثارها ونتائجها المؤلمة، وتحتاج في حركة التخلص من تبعاتها وانتشالها من ذلك الوحل إلى الاستصباح بفكر نير يعيد بلورة العقول للتخلص من الأفكار المبعثرة والتصورات الخاطئة التي انحدرت بالإنسانية المكرمة إلى غير مكانتها بعد أن فتكت بها تلك العبثيات الفكرية والسلوكية، ولا غرو إن قلنا إن السيرة الفاطمية تحمل بين طياتها وبين جنباتها الموردة الأساسيات المستبطنة لتعميد وترسية المقام العالي والتكاملي للإنسان، فسيرتها تعبر عن الإنسان الذي يفوق في كمالاته وفضائله كل المخلوقات، وذلك عندما تجسد العبادة الواعية وشكر النعمة للخالق العظيم عندما ينقطع إليه في الأجواء الروحية ويلتجيء إلى محراب الذكر والطاعة، فموروث تلك العبادات الخاشعة هي التحلي بالورع عن محارم الله تعالى والترفع والتنزه عن مقبوحية المخالفات والآثام، وهذا ما نقف معه في طول وقوفها (ع) بين يدي الله تعالى متذللة تنسج آيات الخشوع والأنس بذكر الله تعالى، وتفرغ من صلاتها لتبدأ في تعداد حاجات جيرانها وتشاركهم همومهم وترفع أكفها مبتهلة للباري أن يقضيها ويلطف بحالهم.
وفي طريق بناء الشخصية الإيمانية تتحرك وفق قيم تستقيها من بناة الحضارة الإنسانية وتمس الواقع وتعالج الفراغ الروحي والانزلاق نحو هاوية السقوط، فتلك الحكم والتوجيهات من بضعة الرسول الأكرم (ص) تمس كل جوانب الحياة وما نحتاج في استخراج مكنوناتها إلا اليقظة والتأمل والتحرك الفكري لتفكيكها وتحويلها إلى قيم ومباديء نسترشد بها في دياجير الحياة، فكيف يمكن لنا أن نتخلى عن المسئولية لتربية شخصياتنا وبنائها، وأداء الواجبات وفق النظم والقوانين، ونحن نجد بين أيدينا سيرة من تحملت المسئولية وكانت العون لأبيها (ص) في هداية وتوجيه النساء، من خلال تحويل منزلها النوراني إلى ملجأ ومهوى تفد إليه النساء لاستماع الأحكام الشرعية وتبيان معاني ومضامين الآيات القرآنية من بنت الرسالة (ع)، أفلا تعد صناعة وبناء الشخصية الإيمانية والواعية والقوية من أهم الرسالات التوعوية؟!
نستنطق تلك القيم الجمالية في الإنسانية النبيلة في أحد أهم مفاصلها عندما يجري الحديث عن مكنونات شخصية الزهراء (ع) وما تحمله من روح التواضع والعمل المثابر على مستوى أسرتها ووجودها الاجتماعي، وفي عطائها تحمل آيات الإيثار والتفاني والتضحية وتعزيز القيم الاجتماعية المتمثلة بخلو المشاعر الإنسانية من الكراهية والأحقاد والدعوة إلى التسامح والعفو عن المسيئين، والخلاصة أن هذه السيرة الشريفة تعد أهم الركائز للحث على الأخذ بقوة في طريق التعلم واكتساب المعارف، ولبث القيم الأخلاقية والتربوية المساهمة في ازدهار وتنمية المجتمعات البشرية.