المراهقون لا يعرفون كل شيء، وأولئك الذين يعترفون بهذه الحقيقة هم أكثر حرصا على التعلم
ترجمة: عدنان احمد الحاجي
مدخل من المترجم
بعد تخرجي من الجامعة، وفي أول يوم باشرت فيه عملي انتابني شعور طاغٍ بأني أعرف كل شيء، أو كما يقول الأجانب: big zero. لكني أدركت بسرعة وقبل نهاية ذلك اليوم أني لا أعرف شيئًا، متذكرًا شعر أبي نؤاس: فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء. ومن نعم الله التي لا تعد ولا تحصى إقرار المرء بمحدودية ما يمتلك من معرفة وسعيه الدؤوب في طلب العلم، حيث بالتأكيد يجد في تلك الرحلة متعة قد لا تضاهيها متعة أخرى.
النص المترجم
لو كنت، مثلي، ممن ترعرع في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فربما صادفت ملصق مغناطيسى قديم على باب ثلاجة مكتوبًا فيه، “أيها المراهقون، لا تغادروا منازلكم حتى تعرفوا كل شيء.”
ربما تعرف مراهقًا، أو ربما نفسك كنت أحدهم، مثل هذا: قاطعًا جدًا بآرائك، ولا تعرف أن هناك من يعرف أكثر منك. مرحلة المراهقة هي فترة ينتقل فيها الإنسان فيها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد. لقطع هذه المرحلة الانتقالية بنجاح، يحتاج المراهق إلى التخلص من التبعية والأعتماد على والديهم وأن يتمتع بأكثر حرية واستقلالية (1). لذا فمن المنطقي أن يعتقد المراهقون – أو على الأقل يتصرفون على هذا النحو – أنهم يعرفون كل شيء.
أنا باحث في كيف يستثمر الناس، في أي مرحلة من مراحل حياتهم، حقيقة أنهم لا يعرفون كل شيء في الواقع.
تناولت الدراسات ما يحدث للشباب الذين يجدون أنفسهم، وسط العواصف العاطفية والاجتماعية والهرمونية في مرحلة المراهقة، على استعداد نسبيًا للاعتراف بأن معرفتهم محدودة بالفعل. هذه سمة يسميها باحثون مثلي: “التواضع الفكري والذي يعني هنا استعداد الشخص للاعتراف بمحدودية معرفته الراهنة ووجود ثغرات فيما يعرفه وأن تلك الفجوات تجعل قناعاته وآراءه عرضة للخطأ وأنه يقدر قدرات غيره الفكرية.” (2 – 7)
وتساءلت أنا وزملائي عما إذا كان هناك أي اختلاف بين المراهقين الذين يدركون قابليتهم للخطأ ــ أي الأعلى درجة في التواضع الفكري ــ وأولئك الذين لا يدركون هذه القابلية. فمن ناحية، إدراك المراهقين لمدى جهلهم وقابليتهم للخطأ قد يكون مفيدًا لهم وذلك بجعلهم أكثر قابلية للتعلم وأكثر انفتاحًا على الأفكار ووجهات النظر والمفاهيم الجديدة(8)، وربما يجعلهم محبوبين أكثر. ومن ناحية أخرى، ربما يكون وعيهم بمدى جهلهم بالغًا إلى الحد الذي يجعلهم يشعرون أنهم مغلوبون على أمرهم ويائسون، مما يجعلهم يتسببون في الإضرار بغيرهم.
وتساءلنا عما إذا كان التواضع الفكري مفيدًا للشباب وإلى أي مدى يكون كذلك، وإلى أي مدى قد يكون ضارًا بالفعل.
توقع الرسوب والإخفاق
في سلسلة من الدراسات التي سجلت بشكل اجمالي أكثر من 1000 مشارك من طلاب الثانوية، قام طلاب المدارس الثانوية هذه بتقييم أنفسهم على درجة موافقتهم على عبارات مثل العبارات التالية: “أعترف حين يكون هناك شخص أعلم مني بأحد المواضيع” و”أشكك في آرائي ومواقفي وأفكاري ووجهات نظري لأنها قد تكون خاطئة” كمؤشرات على التواضع الفكري.
ثم طلبنا من الطلاب أن يتخيلوا أنهم رسبوا في اختبار مادة دراسية جديدة، والأهم من ذلك، ما الذي سيفعلونه استعدادًا للاختبار القادم. قام الطلاب بتقييم سلسلة من ردود فعل ممكنة على هذا الرسوب، بما فيها ردود الفعل المنصبة على التعلم وإتقان المادة، بعبارات مثل: “ادرسُ بجدية أكثر في المرة القادمة،” وردود فعل أكثر يأسًا، مثل “أتجنبُ هذه المادة في المستقبل”.
الطلاب الذين حصلوا على درجة أعلى في التواضع الفكري أيدوا بقوة ردود الفعل المنصبة على التعلم وإتقان المادة [والتي تنطوي على البحث عن التحديات والمثابرة بعد الاخفاقات والتي من شأنها تعزيز التعلم وتقدمه]، مما يدل على أنه كلما كانوا أعلى درجةً في التواضع الفكري، كلما قالوا إنهم سيحاولون تعلم المواد الدراسية الصعبة. ولم تتطابق درجة الطلاب في التواضع الفكري مع درجات تقييمات يأسهم في التعلم. وبعبارة أخرى، لم يكن الطلاب الأعلى درجة في التواضع الفكري أكثر انهزامية ويأسًا. بل كانوا أكثر اهتماما وإصرارًا وعزمًا على التحسن إلى الأفضل.
في الاختبارات ومواجهة والتحديات الأخرى، يتوق بعض الطلاب إلى تعلم كيف يصبح أداءهم أفضل.
مواجهة الإخفاقات في الواقع
رغبنا في معرفة المزيد، خاصة ما إذا كان سلوك الطلاب الافتراضي [خلال إجابتهم على أسئلة هذه التجربة الاستقصائية] سيكون هو نفس سلوكهم في الواقع. تناولت دراستنا التالية هذه المسألة.
إحدى الدراسات أجريت على ثلاث مراحل. لقد بدأنا بقياس التواضع الفكري لدى المراهقين من خلال استبيان أجاب عليه المشاركون أنفسهم مثل تلك الأسئلة التي طرحناها في السابق.
ثم عدنا إلى صفوفهم الدراسية بعد مضي شهور على هذا الاستبيان، في اليوم الذي أعاد فيه المعلم اختبار وحدة دراسية فعلية جرى وضع درجة الاختبار عليها. عندما رأى الطلاب تغذية المعلم الراجعة (تعليقات المعلم على ورقة الاختبار) ودرجاتهم عليها، طلبنا منهم تقييم الخيارات المختلفة لما يمكنهم فعله للتحضير للاختبار القادم.
الطلاب الأعلى درجةً في التواضعً الفكري وافقوا بقوة على عبارات، مثل “أحاول أن أبحث عن الأشياء التي سببت لي إرباكًا” و”اسأل نفسي أسئلة للتأكد من أنني فهمت واستوعبت (اتقنت) المادة،” أكثر مما وافق عليها الطلاب الأقل درجةً في التواضع الفكريً، بغض النظر عما إذا كان أداؤهم جيدًا أم سيئًا في الاختبار.
في المرحلة الأخيرة من هذه الدراسة، انتظرنا حتى نهاية العام الدراسي وطلبنا من المعلم – الذي لم يكن يعرف عن درجات تقييم درجةً التواضع الفكري الذي حصل عليه الطلاب – أن يقيِّم مدى حرص كل طالب منهم على التعلم. وفقًا لتقييمات المعلم، فإن الطلاب الأعلى درجةً في التواضع الفكري بدأوا التعلم بحماس أكثر.
وفي الدراسة الأخرى، مع مجموعة أخرى من الطلاب، طرحنا عليهم مرة أخرى استبيانًا عن التواضع الفكري. ثم طلبنا منهم إكمال حل أحجية صعبة تحتاج.إلى الاستفادة من إصرارهم الفعلي وسلوكهم في الضغط على أنفسهم ودفعها وقبول التحدي والإصرار على الإنجاز حتى لو كانت الأحجية صعبة.
فضل الطلاب الأعلى درجةً في التواضع الفكري حل الأحاجي الصعبة أكثر من تفضيلهم حل الأحاجي السهلة التي يعرفون طريقة لحلها بالفعل، وأخذوا وقتًا أطول في محاولة حل هذه الأحاجي الصعبة وقاموا بمحاولات أكثر في حلها حتى بعد اخفاقاتهم المتكررة مقارنة بأقرانهم الأقل درجةً في التواضعً الفكري.
دور الذهنية
بشكل اجمالي، أعطتنا هذه الدراسات ثقة مضافة بأن الطلاب الأعلى درجةً في التواضع الفكري كانوا أكثر قابلية للتعلم واستعدادًا للعمل بجدية أكثر من أقرانهم الذين كانوا أكثر اتقائية [أي الذين عادة ما يجدون أعذارَا لتبرير اخفاقاتهم] والأقل درجةً في التواضع الفكري – ليس فقط من خلال تقاريرهم الشخصية الخاصة ولكن أيضًا وفقًا لما أفاد به معلموهم، وكذلك ما وجدناه نحن بعد قياسنا أداءهم على مهمة سلوكية فعلية كلفناهم بها.
لكننا لم نكن نعرف ما إذا كان التواضع الفكري هو السبب وراء هذا الانفتاح على التعلم. أردنا أن نعرف ما إذا كان من شأن تشجيع الطلاب على أن يكونوا أعلى درجةً في التواضع الفكري أن يجعل الطلاب أكثر تركيزًا على التعلم وعلى إتقان ما تعلموه وأقل احتمالًا للإستسلام في مواجهتهم للتحدي.
لذا، قمنا بشكل عشوائي بتكليف المشاركين بقراءة إحدى مقالتين، إحداهما عن فوائد التواضع الفكري، والأخرى عن فوائد القطع الشديد (بالأشياء). بدت هذه المقالاتان وكأنهما كُتبتا لصالح وسيلة إعلامية شهيرة، لكننا في الواقع نحن من كتبناهما.
كقصة غلاف، طلبنا تعليقات المشاركين على كل مقالة: هل كانت واضحة؟ هل يمكن للشباب أن يفهمها؟ ما هي الفكرة الرئيسة؟
بعد ذلك، طلبنا من المشاركين القيام بنشاط ثانٍ لا علاقة له بالموضوع ظاهريًا. طلبنا منهم أن يتخيلوا أشياء محددة ويديرونها في أذهانهم. كانت هذه مسائل صعبة، مأخوذة من امتحانات القبول في كلية طب الأسنان، بهدف تحديد مهارات التصور المكاني للشخص [ويطلق عليه أيضًا الذكاء المكاني – البصري / الصوري(10)] .
بعد الانتهاء من حل المسائل، أخبرنا المشاركين أنهم قاموا بعمل جيد في بعض الأسئلة وأخفقوا في أسئلة أخرى. تم إعداد هذه التعليقات بحيث تكون متسقة بحسب كل مشارك. استخدم باحثون سابقون طريقة مشابهة(11) لأنه يصعب على الناس التعرف على ما إذا كانوا قد أجابوا على هذه الأسئلة بشكل صحيح أم لا، مما يجعل ردود الفعل على النجاح والفشل معقولة على حد سواء.
ثم سألناهم عما إذا كانوا مهتمين بالحصول على برنامج تعليمي في المواد التي رسبوا فيها. وكانت النتائج مثيرة: عند سماعهم أنهم أخفقوا في الإجابة على سلسلة من الأسئلة، اختار 85% ممن قرأوا المقال عن فوائد التواضع الفكري طلب المساعدة لمعرفة المزيد عن المادة التي أخفقوا فيه. لكن 64% من المشاركين فقط ممن قرأوا عن فوائد القطع اختاروا معرفة المزيد عن المادة.
في كل هذه الدراسات، أظهر المراهقون الأعلى درجةً في التواضعً الفكري بطرق مختلفة ومن خلال مجموعة متنوعة من المقاييس المختلفة أنهم عندما يرتكبون خطأً ما، فإنهم يهتمون بتصحيحه في المرة القادمة. بدلًا من الإستلام وأظهار عجزهم ويأسهم في التغلب على جهلهم، بينما شرع الطلاب المتواضعون فكريًا في العمل على تعلم الكثير.
وتظهر النتائج التي توصل إليها باحثون آخرون تدعم هذه النتائج أن الشباب الذين يتمتعون بدرجةً تواضع فكري أعلى هم أكثر اتدفاعًا للتعلم والحصول على درجات أعلى، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنهم أكثر انفتاحا على التغذية الراجعة التصحيحية [من معلميهم].
نحن نواصل بحثنا في كيف يؤثر التواضع الفكري في حياة المراهقين وكيف يمكن لأولياء الأمور والمعلمين والمجتمع تعزيز هذا التواضع. تناولت بعض دراساتنا الأخيرة كيف يمكن للمدارس ان تسهل أو تصعب على الشباب ممارسة التواضع الفكري. لدينا أيضًا أسئلة عن مدى تقدير أولياء الأمور والمعلمين والمراهقين للتواضع الفكري. كما هو الحال مع أي درسة، نحن لا نعرف بالفعل ما سنجده، ولكننا متحمسون للتعلم.
مصادر من داخل وخارج النص
1- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0273229712000020?via%3Dihub
2- “التواضع الفكري intellectual humility هو قبول المرء بأن قناعاته وآراءه قد تكون خاطئة. سمات أخرى قد تصاحب التواضع الفكري ومنها قلة اهتمام المرء بمكانته إلاجتماعية وقبول بحدوده الفكرية المتواضعة . غالبًا ما يوصف التواضع الفكري على أنه أحد الفضائل الفكرية. وهي فضيلة تعتبر إلى جانب سائر الفضائل والرذائل المتصورة مثل انفتاح الذهن وتقبل الأفكار الجديدة، والشجاعة الفكرية(3)، والغطرسة hubris(4) والتكبر vanity(5)، والغرور servility. ويمكن فهمه على أنه يقع وسطًا(6) بين طرفي نقيض من الغطرسة الفكرية / الدوغمائية [جمود الفكر والتعصب للأفكار الشخصية](7) والخنوع الفكري / عدم الثقة بالنفس / الخجل الفكري.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:
https://en.wikipedia.org/wiki/Intellectual_humility
3- “الشجاعة الفكرية intellectual courage هي التي تجعل تصرفات الشخص متوافقة مع معتقداته العقلانية، وبشكل يومي، تؤثر العديد من المشاعر مثل الخوف والرغبة في القرارات. إن درجة قدرة الشخص على التحكم في مثل هذه المشاعر أو الاستسلام لها، تحدد قوة شجاعته الفكرية،” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:
https://en.wikipedia.org/wiki/Intellectual_courage
4- https://ar.wikipedia.org/wiki/تكبر
5- “الغرور vanity هو إيهام يحمل الإنسان على فعل ما يضره ويوافق هواه ويميل إليه طبعه. وهو حب الإنسان لنفسه بزيادة، وقد ينتج عنه الكراهية والحقد وقلة التواضع.” مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/غرور
6- https://ar.wikipedia.org/wiki/متوسط_ذهبي7- https://ar.wikipedia.org/wiki/جزمية8- https://www.nature.com/articles/s44159-022-00081-9
9- https://link.springer.com/article/10.1007/s13164-023-00679-9
10- https://services.mawhiba.org/SkillsDevelopment/Pages/SkillView.aspx?Sid=1544&SpItemId=183
11- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0146167207312960
المصدر الرئيس
https://theconversation.com/teens-dont-know-everything-and-those-who-acknowledge-that-fact-are-more-eager-to-learn-214120