القصص القصيرة جدًّا عندما تلامس الجرح قراءة دلالية في مجموعة (ذات جموح) للكاتب حسن آل غزوي
عقيل المسكين
إن من أهم أدوار الأدب هو ملامسته لهموم وآلام الإنسان تمامًا كما هي من أدواره أن يلامس أفراحه ومسرّاته، فدور الأدب من أي جنسٍ هو أن يكون متفاعلًا مع حركة الإنسان المادية والمعنوية معًا، بحيث يكون هذا التفاعل بنّاءً يرمي إلى الغايات النبيلة والتأكيد على القِيم والمبادئ بشكل عام، وقِيمة الأدب ذاته كجمال تعبيري بشكل خاص، وفي مجموعة (ذات جموح) للكاتب المتألق حسن آل غزوي، وهي مجموعة قصصية قصيرة جدًا صدرت عن الكاتب نفسه من القطع الوسط بطبعتها الأولى 1445هـ، 2024م، وتقع في 128صفحة، وتضم أربعة وسبعين نصًّا قصصيًّا قصيرًا، قدم لها الكاتب منذر فالح الغزالي، وقرّظها أيضًا مجموعة من الأدباء منهم الراحل أحمد محمود محمد مبارك من مصر، ومصطفى داود المرشد من العراق، وفتحية دبش من تونس، وآخرون من الجزائر والسودان، وفلسطين، والمملكة العربية السعودية، وهذا دليل على سعة الانتشار لدى الكاتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض المواقع الإلكترونية.
وقد رأيت في هذه المجموعة القصصية ذلك الالتزام بالقيمة والمبدأ الذي أشرت إليه وقد جاء بمختلف أبعاده، إضافة إلى كونها من (السرديات ما بعد الكلاسيكية)، وهي كما يقول د.سعيد يقطين: “عرفت السرديات في تطورها الانتقال من التركيز على «داخل» النص السردي إلى «خارجه»، أي من الشكل إلى السياق. وكان يستتبع ذلك الانتقال من الاختصاص (السرديات) إلى تداخل الاختصاصات وتعددها (السرديات ما بعد الكلاسيكية)”، وهذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا أخذت بمقومات كينونتها التعبيرية عن هموم الواقع والحاضر بالأسلوب المعهود لدى كُتاب السرد الروائي والقصصي في مختلف أقطار الوطن العربي الكبير، وبالذات في مجال القصة القصيرة جداً التي بدأت تثبت مكانتها في العقود القليلة الماضية على المستوى المحلي والعربي بشكل عام، إلا أنني سأركز هنا على بعض الجراح التي تطرق إليها بطرقهِ الخاصة، وما أحلى أن يعبّر الكاتب بأساليبه المختلفة إلا أنه قد يجمعه خيط سحري واحد يؤشر على أسلوبه العام الذي يتميز به عن غيره من الكُتّاب بحيث تنطبق عليه مقولة: «الأسلوب هو الرجل» وهي العبارة التي تنسب إلى بوفون؛ وقد تداولتها بعض كتب الأسلوبيّة، وبعض كتب علم الأسلوب، وبعض كتب مناهج النقد الأدبيّ، ويقصد بها الأديب الفرنسيّ بوفون “(1707م-1788م)، الأسلوب هو الرجل محاولًا التفريق بين المعنى أو المضمون الذي هو حسب رأيه ملكًا للجميع، وبين الأسلوب الذي يعده محصَّلًا لشخصيّة الكاتب»، وهنا سأحاول قراءة أسلوب آل غزوي في إظهار جماليات النص السردي القصير جدًّا في موضوع التعبير عن بعض الجراح الإنسانية على مستوييها العام والخاص من جرّاء تناقضات حضارة العصر ومدنيتهِ المتنافرة، وهي كثيرة جدًا ومتفاوتة في طرق التعبير عنها من كاتب لآخر، بل هي متفاوتة المستويات حتى على مستوى الكاتب نفسه، وذلك لاختلاف زوايا الرؤية، واختلاف درجات تسليط الضوء من خلال كشّاف اللغة وإضاءة الفنّ التعبيري.
وسوف أقسم القراءة هنا إلى أربعة أقسام رأيت أهميتها لاستكمال رؤيتي الخاصة لأمثال هذه النصوص الأدبية الراقية، ألا وهي:
1-نظرة مادية تركّز على الأشياء من حولنا من حيث المفارقة.
2-نظرة معنوية تركّز على تعلق المعنى بشيء غير مادي من حيث المفارقة.
3-نظرة (ماد/معنوية) تركّز على اندماج النظرتين المادية والمعنوية في آن واحد.
4-نظرة نفسية خالصة.
فــ “الكلمة في اللسان العربي لها مفهوم علمي ثابت نتيجة ترتيب أصواتها لا يتغير يحكم كل استخدام الكلمة ثقافة، ومعنى الكلمة هو ما يقصده المتكلم منها حين استخدامه لها وفق سياق معين فيظهر المعنى المادي وهو تعلق المعنى بشيء حقيقي له وجود خارج الذهن أو ممكن وجوده، ويظهر المعنى المعنوي وهو تعلق المعنى بشيء غير مادي ولا وجود حقيقي له وإنما هو شعور أو موقف نفسي أو سلوك”، ومن أمثلة النظرة المادية التي تركّز على الأشياء من حولنا من حيث المفارقة نقرأ في نصٍّ بعنوان (تبجيل) الذي يقول فيه:
“الأديب الألمعي المتوج بوسام عالمي، في المطار اشتكى من المحتفين بالفريق الكروي، قدم جائزته لسائق سيارة الأجرة… علقها بجانب شهادة الدكتورة”.
حيث يركز الكاتب على قيمة شيئية والأثر السلبي البليغ على حياتنا إذا لم تكن لهذه القيمة مكانتها الحقيقية وكما ينبغي أن تكون مُترجمة على مسرح الواقع ألا وهي جائزة التفوق التي حصل عليها الأديب الألمعي، وعندما عاد إلى وطنه رأى الاحتفاء بالفريق الكروي بينما هو يمرّ في المطار مرور الغرباء وعندما يركب سيارة الأجرة يضع جائزته بجانب شهادة الدكتوراه التي يحملها سائق التاكسي نفسه.
فالتركيز هنا في عقدة هذه القصة القصيرة جدًا يكون على شيئين مهمين وهما: الجائزة التذكارية التي حصل عليها بطل القصة – وهي شيء مادي في ظىاهرها-، وشهادة الدكتوراه التي حصل عليها سائق التاكسي – وهي شيء مادي في ظاهرها-، والقصة الأولى هي الأساس والقصة الثانية هي القصة الثانوية، إلا أنهما يندمجان في جرح واحد وهمٍّ واحد هما المعاناة الحقيقية لأغلب المتوفقين في حياتهم الإبداعية وكذلك للخريجين من الجامعات عندما ينتظرون في الأدوار الطويلة للحصول على الوظائف المناسبة لمؤهلاتهم.
ومن أمثلة النظرة المعنوية التي تركّز على تعلق المعنى بشيء غير مادي من حيث المفارقة؛ نقرأ نصّه (ذكرى) والذي قال فيه:
“تطايرت حروفه، ارتطم بعضها بالمرآة، تساقطت متثاقلة، تلك الغائبة الحاضرة تشكل اسمها، تناثر الزجاج، أدمى قلبه”.
فالموقف هنا كلّه مُتشكّل في اللغة ذاتها، بحيث تعبّر عن حالة التذكّر للحبيبة الغائبة، ومن مصاديق التشكّل اللغوي هنا استعماله للمفردات (حروفه) والضمائر في الكلمات (تطايرت – ارتطم بعضها- تساقطت)، وإن كانت القصة هنا تُفضي إلى حبٍّ قديم وعاطفة جيّاشة تجاه الراحلة إلا أننا هنا نركّز على الأسلوب التعبيري ذاته الذي اتخذ من اللغة ذاتها مركزية في طريقة التعبير عن هذا الجرح الإنساني العاطفي.
ومن أمثلة النظرة الـ (ماد/معنوية) والتي تركّز على اندماج النظرتين المادية والمعنوية في آن واحد نص (براءة) والذي يقول فيه:
“اضطرمت البقعة بنشيجها، دثر الأطفال بقلوب الأمهات، تسربل المخيم بالهدوء، غطّت الصغيرة وجهها بما تبقى من ثوب أبيها، نحّاه عنها، انبسطت أساريرها”.
حيث يستخدم الكاتب في أسلوبه التعبيري هنا شيئين مهمين وهما:
1) النشيج وهو شيءٌ معنوي ودلالته الحزن.
2) وكذلك التدثّر بقلوب الأمهات شيء معنوي.
أما الشيء المادي المتبقي من ثوب الأب كناية عن غياب الأب ذاته، وقد أحسن الكاتب توظيف هذين الشيئين المعنوي والمادي معاً في رسم مدى المعاناة التي تقاسي منها العديد من الأسر والعوائل من جرّاء ظلم الآلة العسكرية في فلسطين من جرّاء الاحتلال الصهيوني لبقاع كبيرة من أراضيها وما يفعله جنودهم بأهاليها الذي شرَّدتهم الويلات وجعلتهم يعيشون في العديد من المخيمات خارج أوطانهم.
ومن أمثلة النظرة النفسية الخالصة وقد “عرف المنهج النفسي بأنه منهج يقوم على دراسة الأعمال الأدبية لمعرفة الأنماط والنماذج النفسية الموجودة فيها، والربط بين الشخصيات الموجودة في الأعمال الأدبية وبين شخصية الأديب، فقد يقوم الأديب بإسقاط شخصيته على شخصية من شخصيات قصته…”. ونقرأ مثالاً من مجموعة الكاتب نصًّا بعنوان (وشاية)، الذي قال فيه:
“تعارك مع الشخصيات، استمات في الدفاع عن أفكاري، شكوك زوجتي قذفت بالبطل خارج الرواية”.
وهذه حالة نفسية تحكي الاختلاف في الرأي بين البطل الخارجي للقصة ألا وهو الكاتب نفسه وزوجه التي اختلفت معه في الرأي لأنها وجدته منتصرًا للبطل الثانوي في الرواية التي يقرأ فيها، وهنا شكّت الزوجة في الأمر لأن البطل الداخلي يدافع عن أفكار زوجها البطل الخارجي وهذا شيء طبيعي للمرأة الغيورة التي لا تقبل من زوجها أن ينتصر حتى للخيال الذي رسمته حروف الروائي في روايته واستنطق ذلك على لسان البطل الداخلي للرواية، والتركيب اللغوي هنا كلّه ينمّ عن حالة نفسية تملّكت البطل الخارجي وهو الكاتب وأحبّ أن يعبّر عنها بهذا الأسلوب السردي القصير جدًّا.
ويُلاحظ في النصوص اندماج هذه الأساليب الأربعة في العديد من النصوص، بتفاوت من نصٍّ إلى آخر إلا أننا أحببنا أن نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وقد يكون هذا الاندماج في اثنين أو ثلاثة أو أربعة من هذه الأساليب، وربما هناك أساليب أخرى كالتعبير الأسطوري، والتعبير الميتافيزيقي، وغيرها من أساليب التعبير التي اتخذت اللغة مادتها والصورة البيانية غاية وهدفًا، ولكن بدرجات متفاوتة من نص إلى آخر نظراً لقوة التركيز في كينونة النص ذاته على أيٍّ أسلوب يعتمد الكاتب، وهكذا.