أقلام

هل خانته.. ليتها ما فعلـت؟

سارة الصحراوي

أبعد هذا العمر الطويل تفعلها؟…كيف لها أن تتركني وسط الطريق؟…أيعقـل أن تهجرني وأنا في أمس الحاجة إليها؟

كانت تصله حكايات وروايات كثيرة عن أشخاص عاشوا مثله مرارة التجربة، ولكنه لم يكن ليصدق أنه سيعيشها، لم يستوعب أن ما حصل للآخرين سيتكرر معه؟

كان دوما يعتقد أنها منارته في الحياة، أنها البوصلة التي تقيه من التيه، أنها المصباح المنير الذي يبدد كل ظلام في طريقه….هي حياته بدونها كيف يعيش؟ كيف يفكر؟ كيف يدبر روتينه اليومي؟كيف له بدونها أن يتصرف؟

حين يفكر فيها تظلم الدنيا بين عينيه، ويغشاه اليأس وتلفه الكآبة بردائها الثقيل الأسود، ولا يدري هل هو مجرد كابوس مقيت سيصحو منه بعد حين، وينطلق كما ألف نفسه وألفه الناس نشيطا مفعما بالحياة كما كان؟

إنها الحقيقة المرة، فأبو محمد الرجل الطيب، الخدوم، السمح الذي لا تغادر الابتسامة محياه، المعروف بين أهله بروحه المرحة،الرجل البشوش الذي لا تنال منه المتاعب رغم تواليها، كان يمتلك صبرا فولاذيا ومناعة صلبة لا تلين. وهو في عمق المحنة ومع ذلك يحافظ على هدوئه وصفاء روحه وطبعه المرح.

أبو محمد في عمله كان مرجعا للجميع، الكل يعول عليه… كيف لا وهو القيدوم الخبير، فتجربته جعلته ملما بكل تفاصيل الملفات وكانت لا تفوته أدق الأمور، بل كان يكلمك عن أحد ملفات المتعاملين وكأنه يحكي لك عن أحد أبنائه، يعلم عنه الصغيرة والكبيرة، لا يفوته شيء.

أفعلا خانته؟ أبعد هذا العمر المديد والسنوات الطويلة من الألفة والعشق تفعلها… من كان ليصدق؟

بدأت الحكاية بسيطة… أبو محمد إنسان منظم جدا إلى درجة أن عشقه للنظام والتنظيم كان يزعج أهله وأصدقائه ومن عاشروه عن قرب… أبو محمد كان حريصا بعناد كبير على أن يوضع كل شيء صغيرا كان أم كبيرا في موضعه، مفاتيح البيت لها مكانها،وثائق السيارة، محفظته الجلدية التي لا تفارقه، ساعته، نظاراته الطبية لها موضعها… كان يحرص أن يحترم جميع من في البيت قواعد النظام.

مواعيد دخوله وخروجه معلومة ومضبوطة، وكل جيرانه يحفظونها،فأبو محمد يكره الفوضى كرها شديدا، وينال منه الغضب حين يتجرأ أحدهم فيخرق القواعد حتى عمرانصاحب الدكان المجاور لبيته، كان يناله ما يناله من غضب أبي محمد حين يغفل عن تنظيف جوار المحل أو حين يغفل عن وصية أوصى بها أبو محمد.

بدأت حكاية الخيانة بسيطة، لم يكن أبو محمد يعتقد أنها بداية النهاية. فقد حصل يوما أن كان له موعد مع صديق قديم فرقتهما منعرجات الحياة. ركب أبو محمد سيارته وانتقل إلى الحي الجديد في الطرف الجنوبي للمدينة حيث يقطن صاحبه. ركن سيارته كعادته في أحد الأمكنة المخصصة للركن. فأبو محمد لا يترك سيارته حيثما كان، فهو يحترم قواعد المرور حد التقديس لذلك اختار ركن السيارة أمام حديقة صغيرة، بجانب مطعم للسمك وفي الخلف بناية عتيقة لإدارة حكومية.

ترجل أبو محمد، ركب رقم هاتف صاحبه على جواله، أرشده إلى المقهى حيث ينتظره. وكانت جلسة شيقة استعادا خلالها كل الذكريات الجميلة واللحظات الحلوة التي عاشاها معا، كيف لا وهما صديقان منذ الطفولة وبينهما ملح وطعام.

ضحك أبو محمد كثيرا وانشرح، فقد مر زمن طويل ولم يكتب لهما اللقاء. وهاهي الفرصة تجمعهما.... صحبة الطفولة صحبة متينة، صلبة لا تؤثر فيها حوادث الأيام مهما كبرت.

ودع أبو محمد صاحبه، وغادر نحو سيارته، اجتاز الشارع الأول فالثاني، والتف يمينا ثم يسارا. عاد أدراجه إلى المقهى وعبر المكان من حيث اعتقد أنه جاء. وقف فجأة، فقد ساوره إحساس غريب لكنه رفض الاستسلام. جال في المكان وجال، فحص كل الأزقة القريبة أين السيارة؟ أين الحديقة الصغيرة؟ أين مطعم السمك؟

هل فعلتها؟ هل فعلا خانته ذاكرته؟ أبعد هذا العمر الطويل تتخلى عنه وسط الطريق؟

ما كان يخشاه حصل، وعلامات الخيانة بارزة. أين السيارة؟ أين المقهى؟ أين الحديقة الصغيرة؟ أين الذاكرة الثاقبة؟ أين هو أبو محمد؟

أبعد كل ما عاشاه معا تقترفها؟ كيف له أن يعيش بدونها؟ يا ليت هذا اليوم لم يأت؟ أيعقل أن يفقد أعز ما لديه؟ ذاكرته القوية التي كانت مصدر فخره؟ ونافذته التي منها يرى الوجود؟

أبو محمد يقف الآن قرب مكتب البريد على الشارع الكبير،يلتفت يمينا ويسارا والصدمة تمنع عليه التفكير… يكاد الدم يتجمدفي عروقه والخوف والدهشة يخنقان صدره.. هل فعلا خانته ذاكرته…؟؟

أهي الشيخوخة نالت منه؟ أهي بداية النهاية التي طالما اعتقد أنها لاتزال بعيدة…

لقد خانته الذاكرة فعلا ويا ليتها ما فعلت؟؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى