ماذا فعلتُ لكِ أيَّتُها الشّمس
عقيل المسكين
ذات مرةٍ كنتُ أتأمّل وأنا عند المخبز العربي “التنور” الذي يملكه الحاج علي الرميح –رحمه الله- والكائن في يمين الطريق المؤدّي لحسينية الراشد ومنزلهم، من شارع السوق، وكان في المخبز العربي “التنور” بعض الشَّيَبَة وكنت أنظر للتنّور؛ والخباز يعمل مع مرافِقهِ؛ حيث يعمل الأخير في ضبط العجين وتقطيعه إلى كُوَرٍ متناسقة الحجم ثم يقوم بعجنها بتلك الآلة الخشبية التي تفرد العجين على شكل دائرة بفعل حركة اليدين السريعة ذهابًا وإيابًا على العجينة مع شيء من الضغط باليدين على مقبضيها في الطرفين، ثم يأخذها ويضعها بجانب صويحباتها في صفٍّ متوازٍ على الطاولة بالقرب من العامل على التنور، وهو يقوم بدوره بأخذها واحدة واحدة بيده اليمنى ثم يقلبها على ظهر يده اليسرى حتى يتسع القرص بالمقدار الذي يكفي للصقها على المدوّر القطني الملفوف بالقماش الأبيض، ثم بحركة سريعة يقوم بدفع هذا المدور إلى داخل التنور للصق قرص العجين، وهكذا يكرر هذه العملية حتى يملأ التنور بأقراص العجين المدورة، وينتظر قليلًا حتى يستوي وينضج، ونحن نلاحظ ما يمكننا مشاهدته من ذلك الخبز وقد بدأ ينتفخ قليلًا على شكل دوائر وأصبح منظره مُغريًا للأكل، ويأتي على بالنا ونحن ننظر إليه وهو في طريقه للاستواء البيض المفيوح مع الطماط المقطع، أو البيض المجلي، أو البيض بالطماط، أو الجبن المالح، أو القشطة مع العسل، أو العدس أو “البتيرس” المجلي، أو البلاليط وعليه قرص من البيض المجلي، وما إلى ذلك من أكلات الفطور التي اعتدنا عليها في بيوتنا صباحات كل يوم في الإجازات، أو صباحات الجمعة في أيام الدراسة، حيث لا تؤكل هذه الأكلات اللذيذة إلا بهذا الخبز العربي العريق، كما نلاحظ الخباز وقد أمسك بسيخين من الحديد ليلتقط الأقراص من داخل التنور ويبدأ بإخراجها ووضعها على طاولة الخبز المستوي الذي يصطف بجانبه الزبائن، فيقوم الخباز بحركة يديه بوضع الخبز الذي يستخرجه من التنور بواسطة السيخين الحديدين على هذه الطاولة على شكل صفوف كل خبزة يقع نصفها على الخبزة الأخرى، وبصفوف متوازية، وبعد ذلك يبدأ بعدّ الخبز لكل زبون حسب طلبه، ويستلم منه النقود ويضعها في درج صغير بالطاولة التي يعمل عليها.
في الأثناء ومن شدّة تركيزي وتأمّلي في كل حركة وسكون يقوم بها الخباز ومساعده؛ ولأنني كنت واقفًا في الصف والشمس تضرب رأسي، وأنا طفل هزيل؛ ولأنني كنت أُسمى لهزالة جسمي بالـ (بصو) وإذا بي أرى الدنيا قد دارت في رأسي، ولم أعد أملك القوة الكافية للتوازن أثناء الوقوف، وخُيّل إليّ كأن ذراعًا كبيرًا قد خرج من الشمس وضربني بأصابعهِ على أمّ رأسي، فسقطت أرضًا بين الإغماء واليقظة، إلا أن الحرارة في رأسي قد عملت عملها، فجاء إليّ الخباز الحاج علي الرميح – رحمه الله-، واجتمع حولي بعض الشَّيَبَة الذين كانوا جالسين على الكرسيين الخشبيين الجانبيين وبدؤوا يوقظوني بالماء البارد، إضافة إلى قيام الحاج علي الرميح بإعطائي القليل من الماء لأشرب، وشربت حتى بدأت بالتحسن، وعاد إليّ توازني واستطعت القيام مرة أخرى، وسمعتهم يقولون: أصابته ضربة شمس.. وهو طفل ولم يتحمل.. ومن هنا عرفتُ مغزى كلامهم لأنني شعرت بأصابع تلك اليد العظيمة التي خرجت من الشمس أثناء دُوار رأسي وهي تضربني بشيء من الشّدة والحرارة الشديدة على رأسي.
ومن أجل ذلك استأذن الحاج علي الرميح – رحمه الله- بقية الموجودين وأعطاني كمية الخبز المطلوبة قبلهم جميعًا، ثم قفرتُ راجعًا إلى بيتنا العود وأنا أضع الخبز في الكيس الورقي وأضمه إلى صدري، ولا أعلم لماذا حدث لي ذلك؟.. وما السبب الحقيقي؟.. وهل بالفعل الشمس هي التي ضربتني على رأسي؟.. ولماذا تقوم الشمس بضربي وأنا طفل صغير؟.. وماذا فعلتُ لها حتى تقوم بضربي هكذا أمام الناس بكل صلافة لتجعلني مُحرجًا أمامهم، وأنا لا حول لي ولا قوة.