أصطدم بها أمْ أقع في الحفرَة!
عقيل المسكين
في ذات يوم كنت أقود دراجتي الهوائية التي أُسميها بـ (الدّراجة العاقلة) في شارع السوق الذي يبدأ من سوق الخضرة الذي يقع شرق الديرة وامتداده باتجاه الغرب حتى المنعطف الذي يؤدي يسارًا إلى حسينية السيهاتي، ويمينًا إلى حسينية المطوع وحُسينية خليفة، وكنت سعيدًا بهذه التسلية التي تنعشني بالهواء الطلق، وتقوّي عضلاتي، إلا أن الذي كان يزعجني هو وجود (شركة نام كوانغ) الكورية وهي تعمل في حفر الشوارع الرئيسة والطرقات الفرعية لتمديد مواسير الصرف الصحي الجديدة، وكانت سيهات وقتئذٍ كأنها ورشة عمل كبيرة بسبب تواجد فرق العمل في عدة أحياء وعدة شوارع، ومنها شارع السوق هذا الذي كنت أمارس فيه هواية الذهاب والإياب بدراجتي الهوائية المحبوبة قبل أن أستقر في منجرتنا مع والدي والعاملين معه، وفي تلك اللحظات الحاسمة وأنا في كامل فرحي وسروري بقيادة الدرَّاجة اقتربت من منعطف إلى داخل الديرة حيث يؤدي إلى البيت العود من الجهة الشرقية وكانت هناك امرأة تمشي بكل حياء وتحاول عبور الطريق فوق جسر من الخشب تم وضعه لعبور الناس إلى ذلك الطريق وهي لم تصل بعد للجسر الصغير إلا أنني اقتربت منها كثيرًا بحيث لا أستطيع الانعطاف لا لليمين حيث الشارع ولا لليسار حيث الحفريات أو أنني أصطدم بها فيقع ما لا يُحمد عقباه، واحترت ماذا أفعل في جزء من الثانية أثناء مواجهتي لهذه المرأة، إلا أنني بكل شجاعة ضحّيت بنفسي وبدراجتي ووقعت بكل شجاعة في الحفرة الكبيرة فتألمت كثيرًا كما أصاب دراجتي العطب حيث التوى مقدم الدراجة لاصطدامه بحجر قوي، أما أنا فوقعت على أرضية الحفرة – ولله الحمد – وكانت الأرضية رملية نوعًا ما وفيها بعض الماء الذي ينزّ من بعض المواسير القديمة التي يقوم العمال بإزالتها ووضع مواسير جديدة وقوية، وقد أصابتني بعض الرضوض في يدي وركبتي وتوسّخت ملابسي، بينما المرأة نظرت إليّ مُتعجبة وذهبت إلى حال سبيلها، وأخرجني بعض من كان هناك من المارّة، واطمأنوا عليّ ثم أخرجوا دراجتي المتكسرة، وذهبت بها إلى بيتنا وأنا أجرُّ أذيال الخيبة والخسارة، إلا أنني كنت أشعر بنفسي الكبيرة وذاتِيَ الأبيّة التي آلت إلا أن تضحّي من أجل الحفاظ على سلامة المرأة العابرة.
وعندما سألتني أمي:
– ماذا حصل بالضبط.
فأخبرتها بكل شيء، وأكبرت فيَّ صفة التضحية إلا أنها كانت تضحك من شدّة التعجّب لما قمت به من تضحية –متواضعة-، بحيث حافظت على سلامة المرأة على حساب خراب دراجتي الهوائية، وكدت أن أذهب إلى خالقي بوقوعي في حفرة عميقة.
ومن لطيف ما يمكنني ذكره هنا ما قاله الشاعر أحمد الرمضان أحد أعضاء نادي عرش البيان الأدبي “لهواية الأدب”، عندما قصصت هذه القصة على بعض أعضاء المنتدى ذات جلسةٍ اعتيادية مساء الأحد من كلّ أسبوع، وإذا به في إحدى الجلسات يفاجئني بنظم هذه القصة في قصيدة طريفة وهذا هو نصها:
المسكُ في حادثةٍ شهيرة
ينسجها كقصةٍ قصيرة
لها من الضحكة مكنونها
ومن دروب الوعظ بعد خيرة
لعلها صارت بليل الدُّجى
أو أنها صارت على الظهيرةْ
وكان في العاشر من عمرهِ
وراكبًا دراجةً صغيرةْ
يقودها كطائرٍ رفرفت
جنحاهُ أو كغيمةٍ مَطيرةْ
وشارعُ الحي بعمّالِهِ
مقيَّدٌ بحفرةٍ كبيرةْ
وبينما كان الفتى مسرعًا
في الدربِ يطوي فرَحًا مسيرَةْ
سيِّدةٌ تعبرُ قدّامه
يمينه مركبةٌ خطيرةْ
وباليسار حاجزٌ ماثلٌ
فعاش تلك لحظةً بحِيرةْ
ومعدن الإيثارِ منه انبرى
فقرر الوقوع في الحفيرةْ
وصار رغم الشَّدخِ في زهوِهِ
تحملهُ حميَّةٌ و غِيرهْ
ألّا يمسّ امرأةّ بالأذى
حتى ولو لُفِّعَ بالجبيرةْ
مَضَتْ عقودٌ كثرةٌ؛ لم يزلْ
يذكُرُها بِبسمةٍ جديرةْ
الروائياتي:
– قصة جميلة وطريفة في الآنِ ذاته، وقد أحسن الشاعر في نظمها بهذا السبك الشاعري المدهش، وهذه القصة بحق تمثّل إيمانك العميق بفكرة التضحية من أجل الحفاظ على تلك المرأة، والصحيح أن نقول حفاظك على شخص المرأة بشكل عام، لأنها قد تكون جدتك أو أمك أو خالتك أو عمتك أو أختك أو قريبتك، أو جارتك، وهناك توصيات كثيرة بالمرأة من قبل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت التزمت بهذه التوصيات؛ ومنها قوله: “رفقًا بالقوارير”، وأنت تمثّلت بذلك نظريًّا وتطبيقيًّا، كما إنّك بتصرّفك هذا لا تحبّ أن تكسر قلوب النساء على الإطلاق، وكأنك تتمثل بمقولة مشهورة لـِ الفونس دوديه؛ وهو الكاتب الفرنسي الذي ارتبط بالمدرسة الطبيعية، وامتزجت في أعماله اللوحات الواقعية للحياة اليومية بالخيال؛ عندما قال: “خاطب في الرجل عقله، وفي المرأة قلبها، وفي الأحمق أذنه”، وقد خاطبتَ قلبَ تلك المرأة بلغة الفِعل لا بِلغة القول، وما أحسنها من لغة، حروفها تكونت من أبجدية الضمير ومعاني الإنسانية.
وأضيف إلى ما ذكرته من حياء النساء في مشيهنّ، عندما تطرقت لتلك المرأة التي كانت تريد العبور في الطريق؛ ثم تجنّبتها ولم تصطدم بها، ما جاء في مسرحية (الضيف الحجري) للكسندر بوشكين، عندما تحدث أحد الشخوص الرئيسيين في مشهد ممن مشاهدها عن حياء النساء الإسبانيات حتى في طريقة حركتهنّ ومشيهنّ.
المسك:
– أخجلتموني أيها الروائياتي، ولكن لا يسعني إلا أن أقول الحمد لله رب العالمين، أما بخصوص ما ذكرته عما ذكره بوشكين في مسرحيته فهذه مقاربة خفيفة على ما أظن لتباين تلك القصة في المسرحية عن موضوع الموقف الذي ذكرته.
01/12/1445ه
مثل هذه القصص المحفزة والملهمة لا ينبغي أن تؤخذ على أنها فقط طرفة وإن ابتسمنا لها، وإنما نستلهم منها أسمعى معاني الإيثار والتضحية من طفل يرى ذلك الشارع الصغير هو عالمه الكبير، خاصة وأنها جاءت بسرد عفوي دون تكلف في الحديث أو تقعر في اللغة واستطاعت الوصول بنا إلى الهدف، عدا أنها صيغت من كاتب آخر شعرا بقصيدة لا تقل طرافة مما يسهل وصولها إلى ذائقة القارىء.