أقلام

قطّتي الأليفة

عقيل المسكين

– أكانتِ العادات الشخصية تابعة لمزاجي الخاص، أم مزاجي الخاص هو نتاج لعاداتي الشخصية التي تتغير من زمنٍ آخر؛ ومن مكانٍ إلى مكانٍ غيرهِ؟!

هذا ما يحوك في خاطري من هواجس وأفكار، عندما كنتُ أرى القطط تتكاثر في منزلي الـ (دبلوكس) بحي الكوثر بسيهات، وبالذات في أوقات الغذاء كلّ يوم، لأن القطط كانت تشمّ رائحة الإدام سواء كان من السمك أو الدجاج أو اللحم أو الربيان، بعد أن نطلبه من المطاعم المسجلة أرقامها في “جوّالات” العائلة، فما أن يحضر الغذاء سواء عن طريق مُوصّل الطلبات أو قيامي بإحضاره بسيارتي البلايزر (موديل 2009م)، أو الأفيو (موديل 2009م) أو قيام أحد الأولاد علي أو مهدي بإحضاره من أحد المطاعم بالكوثر أو غيرها من داخل المدينة حتى نلاحظ احتشاد مجموعة من القطط الصغيرة والكبيرة الصفراء والسوداء والمرقطة حيث يُسرعن للجلوس بالقرب من باب الصالة الجانبي الذي اعتدنا أن ندخل منه، وعند تناول وجبة الغذاء نلاحظ جلوس هذه القطط خلف باب الصالة من الزجاج المثلّج المثبت في الباب الحديدي المغطى بأضلاع مزخرفة من الحديد المشكّل، ونسمع مواءهُنَّ ومشاجراتهنّ عند الباب، إلى درجة التقاتل الشديد على حيازة المكان عند الباب والجلوس عنده ولا سيما عند الحافة السفلية من الباب حيث يخرج بعض الهواء البارد لينعشن به أجسادهنّ اتّقاء لحرارة النهار وانعكاس هذه الحرارة الشديدة على الإسفلت والأرصفة المبلّطة بالصفائح الإسمنتية أو بالطوب المستطيل المرصوص، وفي داخل المنازل البلاط المنضّد على الأرضيات الخارجية بمحاذاة أسوارها الأربعة، لذلك نرى أكثر هذه القطط تختبئ تحت السيارات عند واجهة المنازل أو تحت الدواليب والكراسي في أحواش المنازل وممراتها الخارجية بجانب الكراج أو باقي الأسوار من الجهة اليمنى أو اليسرى أو الأمامية أو الخلفية.

لقد اعتاد الأولاد والبنات بعد الانتهاء من وجبات الغذاء أن يضعوا المتبقي من إدام الغذاء أو العشاء في صحون من القصدير، ثم يخرجون هذه الصحون ويضعونها إما بجانب الباب المؤدي لخارج المنزل من الخارج – بجانب المستطيل المزروع- على الرصيف، أو يضعونها بجانب أحواض الزرع في مقدّم المنزل من الداخل، فتتصارع القطط على هذه الصحون حتى يأتون على ما فيها بالكامل، وبعد أقل من نصف ساعة نلاحظ هذه القطط وقد بعثرت هذه الصحون القصديريّة وما تبقى فيها من العظام هنا وهناك، ثم يأتي السائق الخاص ليقوم بالتنظيف بشكل شبه يومي، وبالذات إذا أمرته أم محمد بذلك، حيث يقوم بتنظيف براميل القمامة البلاستيكية، كما يقوم بكنس الفناء من مقدم المنزل والجهة اليمنى والجهة اليسرى، وقد سببت لي هذه القطط الكثير من الإزعاج عندما أشاهدها وهي تساهم مساهمة شبه يومية عندما تتواجد لتناول وجباتها وذلك في نشر الفضلات هنا وهناك، وتوسيخ الممرات بشكل شنيع، حتى سألت القطط وهي مجتمعة ذات يوم –كأنها تنتظر وجبة أخرى- :

– نحنُ نطعمكم ونسقيكم – لوجه الله – فلم لا تقومون بتنظيف الفناء؟.

ولكن القطط كانت تنظر إليَّ بشيء من الطمع، وأقرأ في عيونها شراهة الأكل بشكل واضح، ولم تجبني بأيّ حركة أو مواءٍ ما يدلّ على طلبها أو ما يكنُّ في دواخلها.

وذات نهارٍ جلست في الصالة على الأريكة المقابلة للنافذة المطلّة على الفناء الأيسر من المنزل وأنا أفكّر في هذه (العِصابة) من القطط التي ألِفت منزلنا منذ عدة سنوات، وتتغير بين سنة وأخرى حيث تأتي مهاجرة من بيوت الجيران أو من بيوت أخرى قريبة أو بعيدة من الحيّ الذي نقطن فيه أو من الأحياء المجاورة، حتى رجعت بتفكيري حوالي خمسة عقود عندما كنت أسكن مع والِديً وإخوتي وأخواتي في ديرة سيهات القديمة، وكان بيني وبين القطط إلفًا عجيبًا ولا أزال أتذكر هذا الإلفَ الذي كان يُؤنِسني، بل كان مُفرحًا لقلبي الصغير والدافئ بحرارة الطفولة، وقد انعكس ذلك على مشاهدَ عِدَّة في حياة الطفولة زمانئذٍ، منها عودتي من المدرسة حيث تستقبلني قطتي البيضاء عند مدخل “البيت العود” حيث تسكن جدتي وعمّاتي وأعمامي في الدور العُلوي، وأنا وأبي وأمي وإخوتي وأخواتي نسكن في الدور السُّفلي من هذا البيت القديم، وأتذكر أن هذه القطة الجميلة كانت تتمشى بهدوء معي لمكان وضع حقيبتي المدرسية في غرفتِنا الصغيرة المقابلة لغرفة أبي وأمي، كما أتذكر أنها كانت تنظر إليَّ وهي جالسة بجانب باب (البيت العود) من الخارج عندما كنت ألعب لعبة “التيلة” مع أقراني من أطفال الحيّ، ومن ذكرياتي أيضًا مع قطتي البيضاء أنها كانت تجلس في حضني مباشرة وأنا أتناول وجبة الغذاء مع إخواني وأخواتي الصغار، إضافة إلى أنها كانت ترافقني وأنا أحمل صحن الغذاء أو العشاء إلى جدتي “أم منصور” – رحمها الله- وهي تسكن في غرفة بالأرض الملاصقة للبيت العود والتي تعود ملكيتها لوالدتي إرثًا من والدها الحاج منصور بن علي بن صالح المسكين (رحمه الله)، ولم أكن أشعر بأيّ خوف من مرافقة هذه القطة الأليفة لتحركاتي في بيتنا على الإطلاق، لأنها باختصار كانت قطة أليفة ووديعة بعكس ما أنا عليه الآن وأنا أتذمّر من تصرفات هذه القطط التي تأتي من أي مكان لتناول وجباتها من فضلات الطعام، وبعد أن تقوم بتوسيخ الفناء تختفي إلى أن تظهر مرة أخرى في وقت الغذاء في اليوم التالي وهكذا، وقد لاحظت أنها تجلس بجانب الباب الجانبي لمنزلنا الدبلوكس بحي الكوثر حتى تتبرد من حرارة الجو، حيث يخرج بعض الهواء من الفتحة السفلية للباب فتنتعش القطط من خروج هذا الهواء البارد من جرّاء التكييف الذي لا نستغني عنه مطلقًا في أيام الصيف اللاهبة، ونحن في أقفاص إسمنتية تحيط بنا من كلّ جانب.

ولا زلت أقول: أين تلك الألفة القديمة التي تميزت بها شخصيتي مع القطط، ولا سيّما تلك القطة الأليفة التي ذهب بها الزمن إلى حيث ذهب، وبقيت بعد حوالي خمسة عقود حتى وصلت بي الحال وأنا أتذمّر من كل القطط في الوجود، ما الذي جرى بالضبط في مكنونات ذاتي وخبايا نفسي حتى أكره القطط بعد أن كنت من الذين يحبونها كثيرًا ويألفون العيش معها في بيت واحد؟!.

وعلى مستوى البشر هل يمكن للإنسان أن يألف العيش مع بعض الناس برباط الزمالة أو الصداقة في سنين معيّنة؛ ثم بعد مرور الزمن يصرف نظره عن هذا الرباط وهذه العلاقة ليس لشيءٍ إلا لأنه انشغل عنهم في همّ العيش والجري وراء الرزق وتحصيله والاهتمام بالحياة ومشاكلها، أم أن العلاقة مع بني الجنس ذاته تختلف عن العلاقة بين الإنسان والحيوانات الأليفة كالقطط مثلاً؟!.

الروائياتي:

– قصتك القديمة مع قطتك البيضاء تصلح أن تكون مشروعًا مدهشًا لقصة قصيرة أو قصة طويلة، أو ما يُسمّى بالـ (نوفيلا)، أي رواية قصيرة، وهي بالفعل تصلح لذلك مع شيء من التركيز في ضبط العقدة وإتقان حبكة السرد، واختيار البداية المدهشة وإتقان النهاية الأكثر إدهاشًا، وكذلك فنيّة التحرير الذي يجمع بين إنسانيتك الفطرية كولد يافع، وبين القليل من الفكاهة التلقائية التي تتميزون بها كعائلة متكاتفة وتمارسون الحميمية الطريفة مع بعضكم البعض.

المسك:

– كلامك صحيح أيها الروائياتي العجيب، ولكنني هنا لا أكتب محض قصة أو رواية قصيرة أو طويلة، وإنما أكتب مقالات قصصية متوالية من باب التوثيق والتأمّل ليس إلا.

الروائياتي:

– أطلِقْ لقلمِ خيالك العنان في جولاتٍ أخرى؛ واستثمر قطتك الأليفة القديمة في عمل إبداعي.

المِسك:

– سأرى ذلك، إن شاء الله.

26/11/1445هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى