الشيخ عبدالكريم البحراني (أيقونة التسامح والعطاء)
عبدالله البحراني
تُمثل لنا مسيرة سماحة الوالد الشيخ عبدالكريم البحراني نموذجـاً فريداً في التسامح والعطاء. عرِف بالهدوء, ولكن وراء هذا الهدوء يقف بركانٌ من العمل المتواصل وحراكٌ دؤوب.والنتيجة سجل من الـأعمال, لامس ثـِمارها الجميع. وكانت مهنـته صياغة الذهب. ولكنه وَفـق في الجمع ما بين عمله وطلب العلوم الدينية. يملكُ قدراً هائـلاً من روح المبادرة, سخرها للنفع العام, مع دماثة خلق وحسن تعامل.
تعريف بشخصيته
ولد الشيخ عبدالكريم علي بن أحمد بن محمد البحراني بواحة الأحساء عام 1350 هـجري (تقريباً). وذلك بحي الشعبة بالمبرز. ولـَقي من والده الحب والرعاية. وتعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة لدى المرحوم الملا أحمد ولد زيد (رحمه الله).
عرف بالتقى والوضوح في تعاملاته. باراً بوالديه. عرف بالطيبة ولين الـجانب. خفيض الصوت. مرهف الحس. آية في التواضع. وكان يقدم مصلحة الغير على نفسه وأهل بيته. يجيد ترك المسافة اللازمة بينه وبين اﻵخرين, وهي إحدى أسرار شخصيته ونجاحه. يتواصل مع أقاربه في جميع المناسبات, ولا يفرق في ذلك بين الكبير أو الصغير رجلاً كان أم امرأة. يقدّر ويكرم ذرية رسول الله في الحي, ويحظى منهم بالتقدير والاحترام.
عمل في مهنة الصياغة طوال حياته, والـبداية كانـت في بيع ما يصوغه من مشغولات في مدينة المبرز, ثم أخذ يحمل بضاعته إلى مدينة الهفوف, وأخيراً إلى مدينة الرياض. وأكسبه هذا التحركُ الفرصةَ للتعرف على كثير من تجار العاصمة, وعرِف في أوساطهم بأمانته وصدقه. وفي مرحلة لاحقة افتتح مع أولاده (أحمد وحسن) أول معرض للذهب في سوق مدينة المبرز, أطلق عليه (مجواهرات السعادة).
مشواره العلمي
ومنذ ريعان شبابه, أظهر ميلاً للعلماء ومجالسهم. يتردد يومياًعلى مجلس العلامة السيد محمد السيد حسين العلي (القاضي). كما تربطه علاقة خاصة وتواصل مع الورع السيد هاشم السيد محمد العلي (الكبير). حريـص على حضور مجالس سيد الشهداء (عليه السلام). وكانت لهذه المجالس وهذه الأجواء الأثر الكبير لـتوجه الشيخ لـدراسة العلوم الٰـدينية. وكانت البداية لدى العلامة الشيخ صالح بن ملا محمد السطان.
وحتى الربع الأخير من القرن الرابع عشر, كانت (الدراسة الحوزوية) محصورة في بيوتات علمية معروفة, مثل (سادة السلمان, والخليفة, والدندن في المبرز). ولم يـَعهد المجتمع من صاحب مهنة أو حرفة (صايغ أو خياط) أن يجلس لطلب العلوم الدينية. وفي هذه الفترة, برز عددٌ من شباب الحي المتعطشين للمعرفة. وكانت لديهم رغبة لدراسة العلوم الدينية. ولكنهم ملتزمون بأعمالهم وشؤون حياتهم في النهار.
وفي عام 1382 هجري, عاد الشيخ صالح السلطان من العراق. عندها بادر الشيخ عبدالكريم علي البحراني والشيخ عبدالله حسن السمين إلى زيارته في بيته, وأبدو رغبتهم في طلب العلـم. وطلبوا منه أن يكون أستاذاً لـهم. فما كان منالشيخ صالح إلا أن شجعهم وتفاعل مع رغبتهم. وبدأ في تدريس أول حلقة له في الأحساء. وهم : الشيخ عبدالكريم علي البحراني, والشيخ محمد محمد المهنا, والشيخ عبدالله حسن السمين (العـنـبر), والشيخ أحمد بن ملا محمد العمام. وكانت تلك المجموعة باكورة طلاب الشيخ السلطان (رحمه الله), والتي أثبتت جدارتها وعَبَّدُوا الطَّرِيقَ لغيرهم.
ثم واصل شيخنا الفاضل مشواره في طلب العلم, على يد ثلة من الفضلاء. ومنهم: السيد محمد السيد علي الناصر, والسيد محمدعلي السيد هاشم العلي, والشيخ صادق بن الشيخ محمد الخليفة, والسيد أحمد بن السيد هاشم السلمان.
وطالما روادت سماحة شيخنا الفاضل أمنية غالية, وهي السفر إلى النجف الأشرف لـ إكمال مشواره العلمي, ولكن ظروف والده الصحية, ومسؤوليته تجاه الأسرة حالت دون ذلك. ولكنه استطاع تحقيق أمنيته الشخصية وعدم التفريط بواجب الـ اهتمام بوالده ومتابعة شؤون الأسرة والعمل.
ولم يتوقف شيخنا عند مرحلة طلب العلم. ولكنه بادر إلى نشـره, لتعم الفائدة ويستفيد المجتمع من علمه. فكان يجلس في المسجد الجامع بالمبرز بعد صلاة العشائين, ويشــرح بعض المسائل الشـرعية. وذلك بمباركة من قبل سماحة السيد هاشم بن السيد محمد العلي (الكبير). وكذلك بدأ في إلقاء بعض الدروس الفقهية في حسينية السادة في الفترة المسائية.
وعندما طرحت فكرة (إعادة فتح الحوزة العلمية في الأحساء), كان الشيخ من الداعمين للفكرة. ويحث ويشجع من يتوسم فيهم الميول والقابلية للإلتحاق بهذا الصــرح العلمي. كان ذلك في منـتـصف التسعينيات بعد الثلاثمائة والألـف من بعد الهجرة النبوية.
نشاطه الاجتماعي
وكان سماحة الشيخ من المبادرين للإصلاح بين الناس. وأثبتت الأيام جدارته وفاعليته. وكأنه وبسلوكه هذا يقول لنا (أن الخلافات الأسرية وغيرها يجب أن تدار بطريقة سلمية وحضارية). وغالباًما تنتهي مساعيه إلى خير. ساعده في ذلك ما يحظى به من قبول على المستوى العام والخاص.
والرجل مستمع جيد. يتمعن في الوقت المناسب للتدخل. واختيار الوسطاء المقبولين. وإذا شعر أن المال جزء من المشكلة, كان لا يتردد في المساهمة بماله الخاص. وكان يضع خطة للتدخل. ومن هذا نستنتج أن أسلوبه ومدرسته بسيطة ولكنها فعالة. وهنا تكمن الجاذبية وسر النجاح. والذاكرة تحفل بعدد كبير من البيوت والتي كان له الفضل في دفع آثار الخلافات الأسرية والزوجية عنها.
عرف بـالكرم والسخاء في طريق الخيرات. وتطابق الأ سم على الخصال. وأحدُ الشواهد مساهمته الفعالة في تأسيس حسينية الرسول الأعظم بالمبرز. وقبل ذلك كانت له مبادرة مباركة, عبر قيامه (مع إخوانه من أبناء العم) على تأسيس (صندوق البحراني الخيري), وذلك في عام 1399 هـجري. وفكرة الـصندوق أن يكون وسيلة للتكافل بين أفراد الأسرة. ولثقة الأسرة به وبمنهجه, فقد رشحوه لتولي قيادة الصندوق ورئاسته, ولأكثر من عقدين من الزمن. ولا يزال هذا الصندوق (بعد أربعة عقود من تأسيسه) ينمو على أيدي شباب الأسرة الكريمة.
وطلب منه أحد أساتذته أن يؤم صلاة الجماعة في أثناء غيابه, ولكن الشيخ اعتذر عن تلك المهمة. كما ساهـم في تأسيس مكتبة الـإمام الصادق العامة في حسينية السادة.
خاتمة المطاف
عانى شيخنا الجليل في سنواته الأخيرة من بعض المشاكل الصحية, حتى صبيحة يوم السادس من جمادى الـآخرة عام 1436 هجري, عندما فاضت روحه الطاهرة, وأقيم له مجلس العزاء في حسينية الرسول الأعظم.
مواقف وذكريات
وهنا سوف نستعرض مشهدين, نرجوا أن تعطينا فكرة عن نفسية هذا الرجل وسمو خلقه. فهو لا تفوته تفاصيل المشهد الصغيرة. وبالخصوص المتعلقة بالـ إنسان ووضعه النفسـي. وهذه المواقف وغيرها, توضح لنا وبجلاء (أن راحة الآخر وسعادته) تحتل الجزء الأكبر من تفكير الشيخ ووجدانه. وهذه من سمات أهل الجنان.
المشهد الأول
ينقل لنا سماحة الشيخ عبدالعزيز الفهيد, هذا المشهد وخلاصته: أنه في أحد الأيام, دخل الشيخ عبدالكريم البحراني إلى مسجد الإمام العسكري (عليه السلام). وإذا بطفل يخرج من المسجد باكياً. وعندما سأل الشيخ عبدالكريم عن الأمر. علم أن أحد الأشخاص عنف ذلك الطفل بكلمات. ولم يتحمل الطفل البقاء في المسجد, بل ذهب إلى بيته متالماً. فما كان من الشيخ عبدالكريم, إلا أن سأل الشيخ عبدالعزيز: هل تعرف هذا الطفل؟! فـ أجاب الشيخ عبدالعزيز: بـ نعم إنه من العائلة. وطلب منه أن يدله على بيت ذلك الطفل. وهذا ما حدث. وعندما خرج الطفل. طيب الشيخ عبدالكريم بخاطره وحثه على عدم مقاطعة المسجد, بسبب هذا الحادث العابر. وسوف يبقى هذا الموقف الإنساني في ذاكرة (ذلك الطفل), ما بقي على قيد الحياة. وهذ تصـرفٌ بسيط ولكنه عظيم التأثير. وهذا شأن الكبار .
المشهد الثاني
وقفة مع التسامح. كان السكان في الماضي يعتمدون على الآبار الجوفية, للتزود بالمياه لأحتياجاتهم اليومية. فكانت هناك آبارٌ عامة, مثل جليب (بئر) اليوسفي, والداغري, وجلالي, وغيرها. وأيضاً كانت هناك أبارٌ خاصة ببعض البيوت. وفي الماضي كان من المتعارف عليه أن يتشارك أصحاب البيوت المتجاوة في حفر بئر واحد, ويكون مشتركاً فيما بينهم.ويتقاسمون تكلفة حفره وصيانته. وفي الغالب أن ماء هذه الآبار يـستخدم لأغراض البيوت اليومية وليس للشرب.
وخلال فترة سكنه بحي الشعبة القديمة, كان الشيخ عبدالكريم (رحمه الله) يشترك مع اثنين من جيرانه في بئر يقع بين البيوت. وأقيم على هذا الجليب بناء على شكل غرفة للحفاظ عليه ولـمنع سقوط الدواب فيه. وفي منتصف الثمانينات من القرن الرابع عشـر الهجري, تم تمديد المياه للمنازل عبر شبكة (الموسى والجبر) للمياه, وذلك لقاء دفع اشتراك شهري. وأقبل السكان على تلك الشبكات الجديدة. وبهذا تم الاستغناء عن تلك الآبار الجوفية. بل قام البعض بتصريف مياه المجاري في تلك الآبار, مع ماقد يسببه هذا التصرف من تأثير وتلوث للمياه الجوفية.
والنتيجة أن اتفق أصحاب البيوت الثلاثة (السالف ذكرها) على ردم ذلك الجليب المشترك بينهم, والاستفادة من المساحة والتي يحتلها ذلك البئر بتوزيع المساحة على ثلاثة أجزاء. ويكون نصيب كل بيت الثلث. وعلى هذا الفهم تم ردم البئر.
ولكن حدث بعد ذلك أن صاحب أحد البيوت الثلاثة اعترض على التقسيم. وطلب أن يكون نصيبه النصف وليس الثلث. ولم يوافق على ذلك صاحب البيت الثاني. أما صاحب البيت الثالث فكان الشيخ عبدالكريم البحراني. والذي كان يستمع لوجهتي نظر الطرفيين, مراقباً للوضع من بعيد. وتمسك كل طرف برأيه. وكاد الموضوع أن يتطور لأبعد من ذلك.
وهنا, تهب روح المبادرة, ويبرز التسامح. حيث يتدخل الشيخ ويقدم للطرفين المختلفين اقتراحـاً عمليـاً. بحيث يتـم تقسيم (المساحة المتنازع عليها) إلى نصفين, ويأخذ كل واحد منهم نصف المساحة. وقبل الطرفان بهذا الحل, وبذلك يكون الشيخ قد تنازل عن نصيبه الخاص. وبطيب خاطر. وحتى تتم محاصرة المشكلة. ومن أجل أن يسود الحب والوئام بين الجيران. هذا هو نهج شيخنا الجليل, حيث اللين والرفق والعدل مع الجميع. وعلى ذلك سار طوال حياته. عليه من الله الرحمة الرضوان.