السَّمين جِدًّا لم يُرهبني
عقيل المسكين
سنوات المرحلة الابتدائية بمدرسة الأندلس من 1394هـ حتى الصف السادس عام 1399م كنت أرهب ابن ديرتنا أحمدوه وكان يتميز بسمنته المفرطة حتى كنا نعيب عليه بكلمة: الدبّة، إلا أننا كنا نخاف منه ومن سطوته وقوة بدنه، إلا أنه لم يكن كالفتوّات التي كنا نشاهدهم في الأفلام المصرية القديمة الأبيض والأسود، أو كالفتوّات الذين ذكرهم نجيب محفوظ في روايته الشهيرة (الحرافيش)، أو كالأبضايات الذين كنا نشاهدهم في الأفلام اللبنانية والسورية، حيث لا تكثر هذه الحالة في مناطقنا بالخليج ولا تنتشر أمثال هذه التسميات على الشخوص الأقوياء في الأحياء الشعبية وممن لهم بعض المزايا على أولاد وشباب هذه الأحياء من حيث القوة والسطوة وأخذ الإتاوات وما إلى ذلك، وإنما تنتشر بعض الشلل في الديرة والخصاب والطابوق والأحياء الأخرى، مثل شلة أبو عرّام.
وكان (أحمدوه) حاذقًا في اللعب، سواء في لعبة الصبة أم ثلاث أو الصبة أم تسع، ولعبة الزاتة التي تُسمى بالكوتشينة في مصر، ونحن في سيهات نسميها الزاتة، وكذلك لعبة الزاتة بصور الممثلين والممثلات الغربيين أو المصريين، والشاميين مثل غوار الطوشة وأبو صياح وأبو عنتر وحسني البورزان وغيرهم، بحيث نستخدم القرش أو القرشين ونختار إما السيف وإما الصقعة كما نقول، فإن أصاب أحدنا يأخذ العكوس الموضوعة على الأرض بين اللاعِبَين أو الأكثر أحيانًا، وهكذا، وقد كان رفيقنا أحمدوه هو الفائز دائمًا، حتى إن بعض أولاد الحي أصابهم منه الكثير من الضجر وبدؤوا يتصارعون معه إلا أنه كان قوي البنية فيغلبهم ثم يهربون من بين يديه من غير رجعة، أما أنا فكنت مثل الحَمَل الوديع أمامه، بحيث أتساهل مع أية حالة خسارة تصيبني منه، لأنني كنت أستمتع بهذه الألعاب على أي حال وإن كان الفائز دائمًا هو أحمدوه.
ذات ظهيرة كنت أتغذى مع والدتي وإخواني وأخواتي الصغار، وتحدثت إحدى أخواتي وهي تصغرني بسنة أو سنتين، وقالت:
– أحمدوه تعرض لي اليوم بشقاوته في الطريق وعندما وبّخته حاول ضربي.
ففار دمي في عروقي، وشعرت بالغيرة على أختي.
فقالت أمي:
– ويش سوّالش أحمدوه.
فقالت أختي:
– شافني ماسكة حلويات وحاول ياخذها مِنّي.
فبَيَّتُّ هذه الشكوى في خاطري، وعزمت في قرارة نفسي على الانتقام منه وتأديبه، رغم أنني طوال السنوات الماضية كنت من الذين يخافون منه خوف الحمل الوديع من الذئب المفترس، وذاتِ عصريّةٍ من عصريات لعبنا في أزقة وطرقات الديرة، رأيته يمشي في الطريق المؤدي من بيتنا البيت العود إلى بيتهم الكائن في الطرف الثاني من الحي قبل الطريق الرئيس الذي يشق الحي إلى شقين، شق في الجانب الشمالي، وشق في الجانب الجنوبي، وكان بمفرده فمشيت بهدوء وبسرعة تجاهه ثم مسكته بيدي ضاغطًا على صدره ومُحوّطًا ساعديه بحيث لا يستطيع أن يفكهما وضغط بشدّة حتى شعرت أنه تألم من شدة الضغط المصاحب بالغضب الصادر منّي، ثم قلت له:
– أياني وايّاك تتعيلف بأختي أو تحاول تضايقها في الطريق وإلا با أكسّر راسك.
وبالفعل قمت بفكِّ يَدَيّ ثم بدأت بضربه ضربات متتالية دون توقف، وكان متفاجئًا مما فعلته به بشكل سريع، ثم أطلقت لِرجليَّ الرّيح وهربت بسرعة ولم يلحقني، إلا أنني شعرت بأنني قمت بتنفيذ ما عزمت عليه حفاظًا على كرامة أُختي وأخواتي من أن يتعرض لهنَّ أيّ كان من أولاد الديرة الأشقياء.
الروائياتي:
– موضوع شجاعة الشخص الضعيف موجود بكثرة في التراث العالمي والعربي أيضًا، ونقرأ ذلك في التاريخ أو في مختلف نصوص الأدب كالقصة والرواية والمسرحية، وسأورد لك هنا بعض الأمثلة من القصص و الروايات العربية، والغربية، بخصوص تحدي الشخص الضعيف وتغلبه على الشخص الأقوى منه بدافع الحماس أو الغيرة أو الدفاع عن عرضِهِ دون خوفٍ من قوة الشخص القوي المعتدي، فمن أمثلة الأدب العربي نقرأ قصة عنترة بن شداد، فعنترة، الفارس الشاعر، كان في البداية عبدًا يحتقره قومه ولا يعترفون بشجاعته، لكنه أثبت مرارًا تفوقه في القتال دفاعًا عن قبيلته وعن عرضه، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بحبيبته عبلة، حيث تحدى عنترة خصومًا أقوى منه جسديًا أو اجتماعيًا بسبب شجاعته وغيرته وحرصه على كرامته، وكذلك نقرأ قصة أبي زيد الهلالي، ففي السيرة الهلالية هناك مواقف كثيرة يظهر فيها أبو زيد الهلالي قوته وشجاعته، رغم الظروف التي تجعله يبدو ضعيفًا، وفي إحدى القصص يدافع عن قبيلته وسمعتها مُتحديًا خصومًا أقوى منه عددًا وعدة، وكذلك نقرأ قصة الزير سالم (المهلهل بن ربيعة)، فالزير سالم، المعروف بشاعر قبيلة تغلب، انتفض لثأر أخيه كليب رغم ضعف موقفه في البداية؛ إلا أنه تحدى جيوشًا وقبائل أقوى منه مدفوعًا بالغضب والغيرة والثأر، أما في قصص من ألف ليلة وليلة فـالكثير من قصص “ألف ليلة وليلة” تتحدث عن شخصيات ضعيفة ماديًا أو اجتماعيًا إلا أنها تتحدى العتاة أو الأقوياء بفضل شجاعتها أو ذكائها، ومثال ذلك قصص التجار الفقراء الذين يقفون بوجه الظلمة والجائرين التي توردها بعض قصص ألف ليلة وليلة.
أما من الأدب الغربي فنقرأ الرواية الشهيرة “البؤساء” (Les Misérables) ؛ لفيكتور هوغو، وبطلها جان فالجان، فبالرغم من كونه مطاردًا ويُعد خارجًا عن القانون، يتحدى ظروفه القاسية ويواجه شخصيات أقوى منه، مثل المفتش جافير، مدفوعًا بالرغبة في حماية الطفلة كوزيت والدفاع عن ضعفاء المجتمع.
أما في رواية “موبي ديك” (Moby Dick) لهيرمان ميلفيل؛ يستوقفنا البطل إسماعيل وبقية أفراد طاقم السفينة، رغم كونهم أضعف وأقل شأنًا من القبطان إيهاب، إلا أنه يتحدون سطوته وجنونه وهو يحاول الإيقاع بالحوت الأبيض.
وكذلك نقرأ رواية “هاري بوتر” لجاي كاي رولينغ، وهاري بوتر، الشاب الذي يبدو عاديًا وضعيفًا مقارنة بخصومه مثل فولدمورت وأتباعه، يتحدى هؤلاء مرارًا مدفوعًا بالشجاعة والرغبة في الدفاع عن أصدقائه ومبادئه.
وفي الأدب الديني نقرأ قصة “داود وجالوت ” (David and Goliath) وهي القصة الإنجيلية الشهيرة التي تتحدث عن داود، الشاب الضعيف جسديًا الذي واجه العملاق جالوت وانتصر عليه بفضل إيمانه وشجاعته.
أما رواية “الشيخ والبحر” (The Old Man and the Sea) لإرنست هيمنغواي؛ فنقرأ شخصية الشيخ سانتياغو، رغم ضعفه وكبر سنه، يتحدى البحر وقواه العاتية ويصطاد سمكة ضخمة، مؤكدًا شجاعته وقوة إرادته، وهذه بعض الأمثلة في الأدب العربي، والعالمي، ولنقل في الأدب الإنساني بشكل عام، وهي أمثلة تسلط الضوء على فكرة مواجهة الضعيف للقوي، حيث تُظهر الشجاعة والإرادة بأنها عوامل تتجاوز حدود القوة الجسدية أو المادية.
وما ذكرته من موقفك الشجاع وأنت صبي لم تبلغ الحُلم بعد هو من قبيل هذه الأمثلة ولكنه على مستواك الشخصي كطفل بدأ يكبر ويعرف الحياة شيئًا فشيئًا، وتنمو فيه صفة الشجاعة حتى لو كانت بُنيتك ضعيفة.
27/11/1445هـ