أقلام

عريفُ الفصلِ وامتيازاتهُ الخاصّة

عقيل المسكين

– أن تكون عريفًا للفصل من قبل المعلّم فهذه رتبة جميلة بالنسبة إليك، لأنك إن حصلت عليها يمكنك أن تتحكم في الطلاّب؛ وأن تلزمهم بالقانون والنظام المدرسي، وتتابع معهم كل تعليمات المعلّم، وتقوم بتجميع دفاتر الواجبات لتضعها على طاولة المدرس، وتقوم بتسجيل غياب الطلاب، كما تقوم بتسجيل أسماء المتأخرين عن حضور الدرس أيضاً إذا كانت الحصة الأولى أو كانت الحصة الرابعة التي يأتي ترتيبها بعد الفسحة مباشرة، حيث يكثر تأخّر بعض الطلاب من حضور الحصة الأولى والحصة الرابعة بعد الفسحة، لذلك يطلب المعلمون من عريف الفصل بتسجيل أسماء المتأخرين عن حضور هاتين الحصتين لمحاسبتهم والإحاطة بأسباب تأخرهم حتى لا يقومون بتكرار هذه المخالفة مرة أخرى.

ولعرفاء الفصول قصص كثيرة ومواقف متعددة، وأتذكر منها أن أحد عرفاء فصلنا في إحدى هذه السنوات الابتدائية كان يتصرّف معنا كأنه (الشاويش عطية) الذي كنا نشاهده في أفلام الأبيض والأسود مع إسماعيل ياسين، حيث كان يتميز ببطشه وجبروته على الضّعاف، إلا أنني شخصيًا لم أكن من المتخوفين من هذا العريف لأنني ملتزم بالحضور والانصراف، وملتزم بدروسي وواجباتي، وكل العرفاء الذين رافقناهم في سنوات الدراسة كانوا يعرفون عني ذلك، إلا أن هذا العريف الذي يشبه في تصرفاته (الشاويش عطية) كان بعض الأحيان يجبر بعض الطلاب لشراء وجبته المحببة من المقصف، وكذلك كان يأمر بعض الطلاب بحل الواجب عنه أو يأخذ منهم دفاترهم لنقل حلول بعض المسائل، وهكذا، وكانوا يستجيبون لمطالبه خوفًا منه ومن ردّات فعله السيئة إذا رفضوا التعاون معه.

لقد حصل لي موقف طريف في هذا الموضوع، حيث تغيّب عريف الفصل ذات يوم بسبب مرض ألم به، فعينني الأستاذ عريفًا للفصل، وطلب مني القيام بتسميع جميع الطلاب سورة من قصار السور، ولم أكن أنا حافظًا لتلك السورة إلا أنني قمت بتسميع جميع الطلاب طالبًا طالبًا، فمن يحفظ أضع علامة الحفظ، ومن لم يحفظ أضع علامة عدم الحفظ، وعندما مر اسمي في الكشف قرأت الإسم الذي بعد اسمي ومرَّ الوقت بسلام حتى نهاية الحصة، وعندما جاء الأستاذ لأنه خرج لغرضٍ ما في الإدارة، وعند قرب انتهاء الدرس حضر وأعطيته الكشف ووضعه في الحقيبة كعادته، وبعد أن جلس رنّ جرس انتهاء الحصة، وجلست على كرسي طاولتي وأنا مرعوب من الموقف، وحمدت الله في نفسي على أن الأستاذ لم يكشفني، ولم يسألني حتى عن حفظي للسورة أو عدم حفظي لها، إلا أنني عندما عدت إلى البيت العود؛ بعد انتهاء الحصة الأخيرة، عكفت على السورة ذلك اليوم ولم يأتِ اليوم الثاني إلا وأنا قد حفظتها عن ظهر قلب، وهذا الموقف لم أنسه إلى اليوم، والعجيب أن الأستاذ كتب لي في الكشف بأنني حفظت السورة وقد أخبرنا في الحصة التالية في نفس المادة بأن على الذين لم يحفظوا السورة والذين تم تسجيلهم في الكشف أن يقوموا واحدًا واحدًا لتسميع السورة أمام الأستاذ، وبالفعل قام بمناداة هؤلاء الطلاب وسمّعوا السورة ووضع لهم العلامات في الدفتر الذي لديه، وعندما انتهى الدرس وخرج الأستاذ جلست على كرسي طاولتي وتقدم مني أحد الطلاب وقال: عقيل.. أنت لم تُسمّع لا في الدرس السابق، ولا في هذا الدرس فهل حفظت السورة، فقلت له: نعم حفظتها ولو لم أحفظها لناداني الأستاذ مع الذين لم يحفظوها، وإن شئت سَمَّعتُها لك، فقمت بقراءة السورة كاملة لهذا الطالب، ولله الحمد.

وأنا أتذكر هذا الموقف الطريف أربط هذه الحادثة البسيطة مع ترددات الأمل وتوهجاته في نفسي، فالأمل في كثير من الأحيان يُبهجني ويجعلني في الصدارة من الانطلاق للحياة ومواجهة الواقع، وفي كثير من الأحيان أيضًا يجعلني أقدم رجلًا وأؤخر أخرى لأنني لا أملك الأدوات والوسائل للانطلاق في هذه الحياة ومواجهة الواقع، أو لأن الأدوات والوسائل التي بين يديَّ لم تكن كافية لهذا الانطلاق المطلوب لتحقيق النجاح وإثبات ذاتي على مسرح هذا الواقع الكبير، ولكنني ولله الحمد أعقد العزيمة والهمة لامتلاك الأدوات والوسائل المطلوبة للانطلاق الصحيح لتحقيق الغايات المطلوبة وإن كانت بالتدريج، فكثير من الأمور لا تُؤخذ بالتسرّع وإنما تؤخذ بالتَّؤدة، وبذلك أستطيع أن أكون رائدًا لهذه الذات التي تسكن بين ضلوعي وتجاور نبضات قلبي كما تشعر بحرارة النفس وتوهج الروح وتلامس الحقيقة بوميض من العقل وإشعاع من المنطق، وعلاقة هذا الأمل بذلك الموقف القديم علاقة وثيقة لأنني لا أريد خيانة هذا الأمل على الإطلاق، لذلك لم أعد في اليوم التالي إلا وأنا أحفظ تلك السورة، حتى لو لم يقم الأستاذ نفسه بامتحاني في الحفظ أو عدم الحفظ.

الروائياتي:

– موقف جميل منك، وأشجع في شخصيتك هذه المصداقية، حتى لو كنت رائد فصل لمدة حصة واحدة، أما حديثك عن بطش بعض عرفاء الفصل وتصرفاتهم غير اللائقة مع بعض الطلاب، فهؤلاء العرفاء ينطبق عليهم المثل العربي المعروف والمروي في مجمع الأمثال للميداني: (يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة)، فهذا العريف أصبح صاحب مسؤولية وشعر بأن لديه سلطة ما ولو كانت من هذا القبيل بالنسبة لعريف الفصل المفترض منه جمع الدفاتر والحفاظ على نظام الطلاب في الدخول والخروج، وتسجيل أسماء المتأخرين، وهكذا.

07/01/1446هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى