أقلام

بلخ

ياسر بوصالح 

استوقفتني مؤخراً هذه الرواية:

عن هارون بن رئاب أنه قال: كان لي أخ جارودي، فدخلت على أبي عبد الله ، فقال لي: ما فعل أخوك الجارودي؟ قلت: صالح هو، مرضي عند القاضي والجيران في الحالات، غير أنه لا يقر بولايتكم، فقال: ما يمنعه من ذلك؟ قلت: يزعم أنه يتورع، قال: فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ؟! فقدمت على أخي فقلت له: ثكلتك أمك، دخلت على أبي عبد الله وسألني عنك، وأخبرته أنه مرضي عند الجيران في الحالات كلها، غير أنه لا يقر بولايتكم، فقال: ما يمنعه ذلك؟ قلت: يزعم أنه يتورع، قال: فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ؟! فقال: أخبرك أبو عبد الله بهذا؟ قلت: نعم، قال: أشهد أنه حجة رب العالمين. قلت: أخبرني عن قصتك، قال: أقبلت من وراء نهر بلخ فصحبني رجل معه وصيفة فارهة، فقال: إما أن تقتبس لنا نارا فأحفظ عليك، وإما أن أقتبس نارا فتحفظ علي. قلت: اذهب واقتبس، وأحفظ عليك. فلما ذهب قمت إلى الوصيفة وكان مني إليها ما كان، والله ما أفشت ولا أفشيت لأحد، ولم يعلم إلا الله. فخرجت من السنة الثانية وهو معي، فأدخلته على أبي عبد الله فما خرج من عنده حتى قال بإمامته.

قراءة في النص:

1. هارون بن رئاب: كان شخصًا منصفًا، بحيث أنه نقل للإمام الصادق تقييمه الشخصي عن صاحبه الجارودي بشكل دقيق. وكان التقييم يشمل البُعد الأخلاقي وحسن تعامله مع الجمهور، وكذلك البُعد الفكري ورأيه المخالف بشكل راقٍ ومهذب.

2. إجابة هارون بن رئاب: عندما سأله الإمام الصادق عن سبب امتناع الجارودي عن الإقرار بالولاية، أجاب أنه: ”يزعم أنه يتورع“، ولم يقل مثلاً ”لديه ورع يحجبه“. لو عملنا للعبارة تشريحًا لغويًا – إن صح التعبير – سنجد الفرق في:

• فلان لديه ورع:

– تعني أن الشخص يمتلك الورع كصفة ثابتة ودائمة في شخصيته.

– الورع هنا هو جزء من شخصية الفرد وسلوكه المستمر.

– يعكس الاتصاف بالورع في جميع تصرفاته وأفعاله بشكل طبيعي ومن دون تكلف.

• فلان يتورع:

– تعني أن الشخص يحاول أن يكون ورعًا ويتجنب المحرمات أو المشتبهات.

– يشير إلى فعل مستمر أو سلوك متكرر للشخص للابتعاد عن الأمور التي قد تكون مشبوهة أو غير أخلاقية.

– قد يعكس المحاولة المستمرة للتحلي بالورع واتخاذ القرارات التي تنسجم مع مبادئ الورع.

مع ملاحظة أن مفردة ”يزعم“ في عبارة ”يزعم أنه يتورع“ تستخدم أحيانًا للإشارة إلى شكوك حول صحة ما يدعيه الشخص، وغالبًا ما تُستخدم عندما يكون هناك شك في صدق الادعاء أو عندما يكون هناك عدم يقين بشأنه. في هذه الرواية، يمكن أن نفهم من استخدام هارون بن رئاب لكلمة ”يزعم“ أنه قد يكون لديه شكوك أو تردد بشأن صدق تورع الجارودي، بل ربما كان يعتقد أن الجارودي ليس بالقدر الذي يدعيه من الورع، أو أنه قد يعرف بعض التفاصيل التي تجعله يشكك في مصداقية هذا الادعاء.

3. إجابة الإمام الصادق : ”فأين كان ورعه ليلة نهر بلخ؟!“، التي يُحلو لي تسميتها بالشفرة السرية بين الإمام والجارودي. فهي من جهة تحوي على دلالات عميقة وتلميحات تتجاوز الكلمات السطحية، ومن جهة أخرى تعكس حكمة ورأفة الإمام الصادق في التعامل مع الآخرين دون تجريحهم أو فضحهم.

4. إذعان الجارودي وإقراره دون معاندة ومكابرة: هذا يعكس قوة شخصيته ونضجه الروحي، مما يعبر عن تواضعه واستعداده لتصحيح مساره.

الختام:

1. لكل شخص في حياته ”منطقة بلخ“ ويحتاج إلى شفرة سرية لتذكيره بمساره الصحيح. يجب علينا دائماً أن نكون مستعدين للاستجابة لتلك الإشارات والنصائح التي تصحينا من غفلتنا.

2. النصوص الدينية هي أشبه بمناجم الذهب، فكلما كان الباحث يملك أدوات أقوى وأدق، كلما استخرج منها أكثر. وكلما كانت قراءة الباحث للنصوص عميقة ومن خلفية فكرية واسعة، كلما استخرج لطائف دقيقة ومعبرة قد تكون جديدة حتى على أرباب العلم الديني نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى