أقلام

الكفن لا جيوب له

السيد فاضل آل درويش

ورد عن أمير المؤمنين (ع): البخيل خازن لورثته)(عيون الحكم والمواعظ ص ٢٦).

الجلوس بين يدي مائدة معرفية ومتحدّث حكيم تكسب الإنسان النضج والرشد الفكري وتكوين صور شاملة للمفاهيم والظواهر والسلوكيات، وتدرّب الإنسان على التعامل بمنطقية وعقلائية في حواراته وطريقة معالجته لما يمر به من مشاكل وصعوبات، وكم نحن بؤساء نستحق الشفقة حينما نتخلى عن زمام العقل ونتجه إلى التصرف بعاطفية أو وفق المشتهيات والأهواء؛ لنوغل أكثر في الحيرة والتيه ويلتف حبل اليأس والتعاجز حول رقابنا دون أن نبصر الطريق أمامنا، وليس معنى ذلك أننا سنظفر بنحو مستمر لحلول سحرية لما نواجهه من مشاكل، بقدر ما هو ترتيب لطريقة تفكيرنا ولملمة أوراقنا وقبول تحدي المرحلة واختبار ما نمتلكه من قدرات وعزم وطموح للوصول في نهاية الأمر لمعالجات منطقية وممكنة.

وفي مثال تطبيقي على ما نحن فيه من حديث حول التفكير العقلائي في مجمل تصرفاتنا وإدارة حياتنا، وطريقة إقناع الغير بسلبية التصرفات القبيحة والرذيلة الأخلاقية بغية التخلص منها وتجنب الوقوع في براثنها، ومن ذلك صفة البخل والامتناع عن إنفاق المال على النفس والأسرة، في سياق طبيعي لهذه الوسيلة (المال) في توفير مستلزمات الحياة الكريمة وتوظيفه لتحقيق الأهداف السامية والكبرى في حياتنا وطموحاتنا، فالمال لا يُخفى في الجيوب لكنزه مع التصرف بتقشف وشحة وتقصير على نفسه وأسرته، فالمال وإن كان غريزة عند الإنسان يحبه ولكن المشكلة تكمن عند منعطف الإفراط في شد الحزام والتقتير والحيلولة عند خروج شيء منه من جيبه قدر إمكانه، وهذا الحرص يواجه المرء بحقيقة الرحيل من الحياة خالي الوفاض من أي شيء ما خلا عمله، فتلك الثروة التي تعب وبذل عمره ووقته وجهده في تكوينها وتخزينها، مع حياة الحرمان الموجبة للشفقة عليه لما يفعله بنفسه وأهله، فالمال الذي جمعه طوال عمره لن يأخذه معه في قبره وهذه حقيقة مُرة ومؤلمة، وما هو أمرّ منها هو حصول ورثته على تلك الأموال التي حرمهم منها طوال عمره، مع فارق وهو أنهم سيكونون في حالة حنق وكراهية له لما فعله بهم من حياة قاسية عانوا فيها الأمرين من فقر مدّعى حوّل حياتهم إلى ما هو أشبه بالجحيم.

وقد حرم البخيل نفسه من أهم موارد السعادة الحقيقية وهي إحداث تأثير إيجابي وبصمة جميلة على من حوله من المحتاجين، وذلك ببلسمة آلامهم بالمساعدة بشيء بسيط مما فضل من احتياجاته المالية؛ ليرسم الفرحة والانبساط على الوجوه التي حفر الفقر اسمه على جباههم، فلا هو بالذي أسعد نفسه في الحياة حيث قضى عمره أسيرًا وعبدا للمال، حيث كان الحارس الأمين للمال لئلا يتسرب شيء منه من جيوبه، ولا هو بالذي صنع مستقبلًا جميلًا وواعدًا لنفسه يوم القيامة بتكوين رصيد أخروي ينفعه في ذلك اليوم.

يتحرّك الإنسان باتجاه ما يحقق له منافعه ومصالحه ويتجنب ما يلحق به الخسارة، وهذا الأمر – أي البخل – يحرمه من الانتفاع به في الدنيا، كما أنه يصيبه بالهلع و القلق المدمر بسبب حراسته لماله وهذا ما يستنزف طاقته النفسية، كما أن علاقاته الأسرية والاجتماعية متهرية بسبب هواجسه من العطاء و لذا يصبح شخصًا منبوذًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى