هل سيدخل هذا الدرس في الاختبار؟
بشائر: الدمام
ازدادت مؤخّرًا حالات انتحار الطلاب، خاصة طلاب الثانوية العامة؛ ويكفي أن نضع كلمتي «انتحار» و«طلاب» على أحد محركات البحث لنقف على بعض هذه المآسي. وقد عاينتُ إحداها الصيف الماضي، وكان وقعها عميقًا على المجتمع. وعلى الرغم من تكرار هذه الحالات ما زلنا مستمرين، بصفتنا أولياء أمور ومؤسسات تعليم، في التشبّث بمعايير معينة للنجاح أثّرت عميقًا في جوهر التعليم وأهدافه.
نعتقد أننا نكتسب المعرفة من خلال التعليم، لكننا في الحقيقة ندفع أبناءنا لخوض حربٍ حقيقية من أجل التسلّح بأعلى الدرجات والتقييمات، سعيًا إلى كسب رضا الجامعات ومتطلبات السوق. لا نستطيع إنكار أن الدرجات تحفّز الطلاب وتضعهم أمام أبواب النجاح، لكننا ننسى أحيانًا أن هذا قد يجعل من التعليم حدثًا هامشيًّا.
أصدرت مؤخّرًا دار تكوين الكويتية الترجمة العربية لكتاب «بعيدًا عن الدّرجات، كيف تُقوّض الدرجات والتقييمات والتصنيفات التعلمَ… وكيف نتجنب ذلك؟» الصادر سنة 2023، عن جامعة هارفارد، لأستاذيّ التربية: جاك شنايدر من جامعة ماساتشوستس لوويل، وإيثال إل. هوت من جامعة كارولاينا الشمالية في تشابل هيل.
انطلاقًا ممّا عرَفه العالم، في زمن وباء كورونا والحجر الصحي، من تغييرات جوهرية، مسّت كل مناحي الحياة، بما فيها التعليم، وبالنظر إلى القلق الشديد الذي أصاب أولياء الأمور من تأثير ذلك على تحصيل أبنائهم، يسعى الباحثان إلى تفسير هذا الهوس بالدرجات والتقييم.
يؤكد الكِتاب حقيقةً مفادها أن نظام الدرجات والتقييم هو المحفّز الأكبر للطلاب، ولكن هذا النظام غالبًا ليس له علاقة كبيرة بالتعليم؛ بل وُضع لأجل تبليغ رسائل صنَّفها الباحثان إلى نوعين: رسائل قصيرة المدى، التي يتواصل عبرها المعلم مع الطالب أو المدرسة مع الأسرة، ورسائل طويلة المدى، تلك التي تصل إلى لجان المِنَح والاختيار في الجامعات وأصحاب العمل. وهذه الرسائل -بنوعيها- بَنَت آليات تُملى عبرها تقنيّات التقييم، وتحدِّد طُرقَنا في التدريس وليس العكس.
كما طوّرت نظم التعليم، التي تقوم على هذه المحفّزات، سلوكيات معيّنة لدى الطلاب، مثل المراهنة على دروس معينة دون سواها، اعتقادًا منهم أنها محور أسئلة الاختبار. وغالبًا ما يسمع الأساتذة أسئلة من نوع: «هل سيدخل هذا الدرس في الاختبار؟» كما يلجأ آخرون إلى استعطاف الأساتذة من أجل درجات أفضل، أو اللجوء إلى الغش والتلاعب الذي يقوم به حتى أفضل الطلاب معرفةً وأخلاقًا بسبب الخوف والارتباك.
وقد تناول الفِلم التايلاندي «Bad Genius» هذه الظاهرة ببراعة، مبرزًا الضغوط التي يعيش تحت وطأتها الطلاب، وتدفعهم نحو ارتكاب جرائم غش متطورة. والفِلم مقتبس من واقعة حقيقية حدثت بالصين.
النقطة الشائكة في نظام الدرجات، حسب الكاتبين، مرتبط -بالأساس- بأنّ أنظمة الدرجات مبنية على خلل في التواصل. لو كان الهدف الأساسي، كما ذكرنا، هو إيصال الرسائل القصيرة والطويلة، فهذه الرسائل قد تتأثر بعوامل ليست في قدرات الطالب الحقيقيّة، وقد تمسها عوامل طارئة، كما حدث مع الحجر الصحي. لكن أسوأ ما يؤثر فيها هو وقوع الأساتذة في مأزق أخلاقي وعاطفي، بين أن يتواصلوا مع الطلاب بما يساعدهم حقًّا في تقييم وتطوير ذواتهم (ومن ثم فهم الدروس وتطبيقها) وبين وضع نقاط قد تؤثر عليهم مستقبلًا في سجلّ تاريخهم المدرسي الموثّق على المدى الطويل. وهذا ما يخلق علاقة متوترة دائمة بين الطلاب والأساتذة.
ما لفتني في الكتاب، وجسَّد حالة لطالما فكرت فيها عندما أقارن أحوال طلاب التعليم العام بطلاب التعليم الخاص، وصف «مفهوم الذات الأكاديمي»؛ ويُقصد به مدى اعتقاد الطلاب في قرارة أنفسهم بأنهم قادرون أكاديميًّا. فالمنتمي إلى المدرسة العمومية، من المرجّح أن ينظر إلى نفسه بأنه أقل قدرة، وليس أهلًا للمنافسة على التقييمات النهائية المؤهلة لسوق العمل، مهما طوّر من نفسه، وهذا ما يفاقم عدم المساواة.
لكن هذا المفهوم قد يَرِد أيضًا على طلاب المدرسة نفسها؛ فمن حصل على درجات ضعيفة وتقييم سيئ، سيرى أنه غير قادرٍ على اللحاق بأقرانه، فيخلق عن نفسه تصورًّا قد يكون خاطئًا.
يشير الكِتاب إلى بعض المبادرات من أجل تعطيل هذا المفهوم، مثل برنامج كومر الأمريكي الذي يسعى إلى بناء روابط عاطفية إيجابية مع موظفي المدرسة، وبناء موقف إيجابي تجاه البرنامج الدراسي.
يسعى الكاتبان إلى تضخيم مشكلة الدرجات والتقييمات، من أجل لفت انتباه المجتمع نحو إعادة النظر في مآسيها ومحاولة إصلاح نظامها. وقد شملت دراستهما معظم بلدان العالم، وخلصا إلى أننا متشابهون في هذا النظام مع استثناءات بسيطة. لم يكتفِ الكاتبان بتوضيح الإكراهات، بل حاولا طرح حلول بديلة. لكنهما في النهاية، يُقِرَّان بأن علينا التعايش مع نظام الدرجات، مع وضع بدائل تكميلية تخفّف ثقله.
ومن البدائل التي وجدتُها لافتة، وقد تحدث فرقًا جوهريًّا، هو «التقييم ذو المصداقية». وقد عرَّفه قرانت ويقينز خبير التقييم بقوله: «يتطلب التقييم الأصيل من الطلاب أن يكونوا مؤدين فعّالين، يتمتعون بالمعرفة المكتسبة»، بمعنًى آخر، أن يستهدف التعليم الممارسة التطبيقية للطلاب عوض الاكتفاء بالنظريات، مثل أن يقوم الطالب ببحوث ميدانية لكتابة تقرير، عوض الاكتفاء بإعادة سرد الدرس الذي أملاه عليه معلمه.
ما يعيب الكتاب أنه تجاهل أننا نعيش في مجتمعات رأسمالية لا تستثني التعليم من إكراهات ترتبط بالسوق وتقلّباته، سواءً تعلّق الأمر بالتعليم الخاص أو العام. وبدأت مجتمعاتنا تعرف تجارة جانبية، لا تخضع دائمًا لتنظيم هيكلي، مثل مدارس «الدعم». كما أصبح الوقت يقاس بالقيمة. ومن ثم، فإن نظام الدرجات والتقييم ليس سوى أثر مباشر لتركيزنا على القيمة التبادلية للتعليم وليس ما يمنحه من معرفة.
قد لا يحل الكتاب معضلة التعليم، وعلينا حقًّا التعايش معها. وقد يحتاج الأمر إرادة حقيقية من الأفراد لتغيير ما ترسّب عميقًا في تفكيرنا، ولكنه يقدم دليلًا عمليًّا يساعد في مناقشة أحوال التعليم وإصلاحه، مما يجعله أبعد من مجرد شهادةٍ عابرةٍ نضعها في أدراجنا وننساها.