مراوغة ثعلب
السيد فاضل آل درويش
ورد عن أمير المؤمنين (ع): الغشوش لسانه حلو وقلبه مر )(غرر الحكم ص ٤٢١).
ما وراء الكلمة الجميلة واللطيفة قلب يعبر عما يختلج فيه من معان وأفكار ومشاعر، فالجدارية الخلفية لتلك الحلاوة قد يكون القلب الصادق والنقي الذي لا يعبر إلا بما يجده أمامه من مشهد أو موقف، فيكون لسانه آلة للتعبير عن حقيقة مشاعره وما يضمره من أحاسيس، ولكن البعض لا يسير بهذا الاتجاه فلسانه لا يعبّر حقيقة عما في قلبه من مشاعر، فكلمته مجرد مهادنة وأسلوب خداع وغش للآخرين، وأما قلبه الأسود فيضمر الشر والسوء، فهذه الازدواجية بين ما يظهره الفرد وما يضمره يعبّر عنه الحديث بالغش والمكر، فهناك من يتقن الخداع بكل براعة من خلال لسانه الجذّاب الذي يموّه به ويصرف عقول الغير عما في قلبه من سوء، وتكمن المشكلة هنا في التمييز بين أصحاب الكلمة الصادقة ومن يعطون الكلمة قيمة عالية تعبر عن مواقفهم وشخصياتهم، والذين يجدون في حديثهم ما تبتني عليه الثقة والعلاقة المستقرة والناجحة، وهناك من يجعل الكلمة المعسولة طريقًا لخداع الآخرين حيث يخفي في قلبه شيئا آخر.
الشخص المخادع له ظاهر أنيق ومهذب ويتحدث بأسلوب هاديء ومؤدب، وهذا ما يجعله قادرًا على إقناع الآخر بفكرته وهدفه من خلال الاعتماد على لطافة الحديث، أما هدفه الخبيث فهو تحقيق مصالحه الشخصية وأغراضه الخبيثة التي لا يُطلع عليها أحدًا حيث يضمرها في دواخل نفسه، وهذا الأمر – وجود المخادعين – يحتم علينا مسؤولية النظر في المواقف العملية التي تعبر عن حقيقة مواقف الآخر وأهدافه، فليس كل ما تسمعه من كلمات تعبر عن جوهر حقيقي له أثر وقيمة، بل قد تكون مجرد فخاخ يستخدمها ماكر ليسقط فيها الغير، فالود واللطافة تصدر من الشخص الصادق والغشاش وما يميز بينهما وما يظهر النوايا الخفية هي المواقف العملية.
الشخص المخادع يستخدم أسلوبًا جذّابًا وبارعًا ليحتل موطنًا في قلوب الآخرين وينال ثقتهم، وقد تنطلي هذه المناورات الكلامية المخادعة على بعض المخدوعين والذين يصدقون ويثقون بكل ما يقال لهم، دون أن يلتفتوا إلى رأس الذئب المتدثر بصوف الحمل الوديع إلى أن يصل إلى مبتغاه فيكشر عن أنيابه ويكشف وجهه البشع، فالمهم عند الغشاش المخادع الوصول إلى غاياته ولو كان ذلك عن طريق التلاعب بمشاعر الآخرين وتمويه الحقائق عنهم.
والشخص الغشاش قد يكون انتهازيًا وصوليًا يستعمل كل الأساليب القذرة المخادعة في سبيل الوصول إلى مصالحه على حساب الآخرين، وقد يكون شخصًا يعاني من نقص الذات فيشهر أسلحته الهجومية المتمثلة بالكلمة الجذابة ليدمر غيره، وقد يكون شخصًا مهوسًا بالشهرة والمكانة الاجتماعية المرموقة فيسعى لتحقيقها من خلال لفت الأنظار إليه بما يمتلكه من كلمات رقيقة لا تعبر عما بداخله، ومثل الغشاش كبيت العنكبوت سرعان ما ينهار بيته الواهي وتتقطع خيوطه، فتنكشف حقيقته أمام أصحاب العقول الواعية والراصدة لتصرفاته التي تظهر سريعًا حقيقته، فالثقة والتعاون بين أفراد المجتمع لا تُبنى على الكلمات المعسولة الخداعة لوحدها، بل تُبنى على أساس المواقف العملية المتكررة والمستمرة التي يمكن من خلالها الحكم عليه وتقدير حقيقة وعوده وصدق أحاديثه.
وهذا توجيه نحو تحقيق الشخصية القوية في مواجهة التحديات والقدرة على إقامة علاقات مستقرة وناجحة، وذلك من خلال التوافق بين أقوالنا ومواقفنا وتصرفاتنا بعيدًا عن إطلاق الكلام العذب الجميل وكأنه رصيد بورقة بيضاء لا قيمة له، وفي المقابل هي دعوة تنبيهية لمن نتعامل معهم ورصد قيمة كلماتهم من خلال أرض الواقع، فكم من إنسان يظهر الود واللطافة في تبادل الأحاديث وهو يضمر الكثير من النوايا الخبيثة، فالكلمة لا تأخذ أي قيمة ما لم تكن فعلًا عمليًا ينسجم معها.