أقلام

قراءة أدبية لمقالة نورة النمر في ديوان [نبض] للشاعر زكي السالم

عماد آل عبيدان

تبدو المقالة في جوهرها احتفاءً معرفيًا وجماليًا بمجموعة شعرية غنية النبض والمعنى، تستعرض ملامحها الكبرى وتغوص في طبقاتها العميقة، متكئة على أدوات نقدية تجمع بين الذائقة الرفيعة والرؤية التحليلية المتأنية.

العنوان كعتبة سردية ودلالة إيحائية

العنوان هنا ليس مجرد تسمية شكلية أو هوية عابرة، بل هو بوابة تحمل إشاراتها الأولى من معاني التوتر بين اللغة والواقع، بين المجاز والحقيقة، بين الظاهر والباطن. فـ”نبض الفكرة” ليس عنوانًا تقريريًا، بل هو انزياح لغوي مكثف، يوظف طاقة المفردة وإيقاعها الداخلي واستدعاءاتها الروحية والنفسية، ليضع المتلقي مباشرة أمام نص متداخل بين المادي والمعنوي، وبين الفكرة كحالة ذهنية وبين النبض كإيقاع حسي، فكأننا أمام هندسة لغوية تربط الروح بالنص، والفكرة بالنبض.

ثنائية الشكل والمضمون

حين تقرأ توصيف المجموعة الشعرية، تلمس بوضوح إدراكًا نقديًا عميقًا لمعادلة التوازن بين الشكل والمضمون، فالشاعر في هذه التجربة لا ينحاز إلى زينة اللغة على حساب عمق الفكرة، ولا ينساق وراء المباشرة الفكرية على حساب جمال الصورة، بل يصوغ جدليته الخاصة التي تمنح النص طزاجة وحداثة، دون أن ينفصل عن أصالة الرؤية الشعرية ووهجها الأول.

ثراء معجمي واتساع موضوعي

المقالة تقرأ المجموعة من حيث كونها مشروعًا لغويًا مفتوحًا، يقتنص من معجم اللغة مفرداته برهافة وانتقائية واعية، تبتعد عن الاستهلاك اللغوي المكرور، وتنحت للأفكار والمشاعر ألفاظًا كأنها لم تُستخدم من قبل، مع الحفاظ على ترابطها العضوي مع نَسَق النص. وهذا الثراء المعجمي يتناغم مع تعددية موضوعية مذهلة، تنتقل برشاقة بين الغزل، والهم الوطني، والرمزية القرآنية، والبعد الإنساني، دون أن يفقد النص وحدة روحه أو بصمته الخاصة.

التناص القرآني وثراء الرمز

في قراءة النص (يوسف في غيابة الجب) تبرز قدرة الشاعر على تطويع الرمز القرآني، لا كنقل حرفي أو استدعاء مباشر، بل كإعادة تشكيل وتأويل يفتح أفق النص على احتمالات متعددة، مما يُكسِب الرمز بعدًا مركبًا، يجمع بين التراثي والحداثي، بين القداسة والتأويل الشخصي، في مساحة من الإبداع الحر الذي يحرر الرمز من سطوة التكرار ويمنحه حيوية تأويلية جديدة.

الإيقاع الداخلي وصوتية المشاعر

تُبرز القراءة النقدية بعدًا مهمًا، حين تتحدث عن الإيقاع الداخلي للنصوص، والذي لا يُختزل في موسيقى البحر والقافية، بل يمتد إلى نَفَس النص وروحه الداخلية، حيث تتصاعد المشاعر وتهبط وفق نبض موسيقي خفي، يتكامل مع الصورة والمعنى، في بناء شعري يُشبه المعمار الروحي الذي يُقيمه الشاعر داخل قلب القارئ.

جدلية الغموض والانكشاف

واحدة من الملامح الجمالية اللافتة التي التقطتها المقالة، هي تلك العلاقة الجدلية بين الوضوح والغموض، بين التصريح والإيحاء، بين الإضمار والكشف. فالشاعر هنا لا يقدّم نصًا مغلقًا على ذاته، ولا يُلقي بالمعنى جاهزًا بين يدي المتلقي، بل يترك مساحات بيضاء عامرة بالتأويل، أشبه بشرفات تطل منها المعاني دون أن تهبط كلها إلى أرض النص.

نبض الصورة الشعرية وتشكّلاتها

حين تتحدث المقالة عن نص (ثلاثيات من حانة العشق)، فإنها تفتح نافذة على عالم الصورة الشعرية بوصفها جوهر التجربة، حيث تتخلق الصورة من رحم التناص والسؤال الوجودي، ومن قلق الروح العاشقة في رحلتها الوعرة بين الخيبة والأمل، وبين الحضور والغياب، في مشهدية شعرية تستفيد من البحر الهزجي وتوظفه في تشكيل إيقاع الصورة وتقلباتها.

تمرد على التابوهات وجرأة فنية

في نص (زائرة الفجر)، تلتقط القراءة النقدية بعدًا جماليًا آخر، يتمثل في جرأة الشاعر على تفكيك التابوهات الاجتماعية وتوظيفها في خدمة غرض شعري، يحوّل الاجتماعي إلى شخصي، والعام إلى ذاتي، في لعبة شعرية ذكية تمتحن حدود الجرأة اللغوية والموضوعية، دون أن تقع في فخ الابتذال أو الاستفزاز المجاني.

النبض الإنساني والهمّ العربي

في القراءات الخاصة بالنصوص الوطنية، تبدو المقالة واعية تمامًا لأهمية هذا البعد في تشكيل هوية المجموعة، حيث يتحول الشعر إلى صوت جمعي، ينطق بلسان الحلم العربي المجروح، ويؤرّخ للعذاب الفلسطيني، ويفتح الجراح القديمة لتبقى شاهدة على خيباتنا المتجددة، في مشهدية شعرية نازفة، تُعيد تكوين التاريخ في قالب جمالي مدهش.

استدعاء الرموز وتكثيف الدلالة

يتجلى هذا البعد تحديدًا في نص (حرقة وأمل)، الذي يُعيد إنتاج مأساة محمد الدرة في سياق جديد، يستحضر من خلاله الرموز التاريخية الكبرى، في جدلية الضحية والجلاد، وفي تمثلات الألم الذي يتجدد عبر الأجيال، وكأن القصيدة وثيقة روحية ووطنية في آن، تجمع بين التأريخ والإبداع.

الحنين للأرض والوفاء للذاكرة

في قراءة نص (نصفي للشهارين)، تُبرز المقالة تلك العلاقة العضوية بين الذات والمكان، حيث تتحول الأرض إلى مكوّن جوهري في بنية الهوية، وتصبح الأمكنة ذاكرة بديلة، تختزن فيها الأحلام والخيبات معًا، في قصيدة تُعيد إنتاج الجغرافيا بعين العاشق، لا بعقل الجغرافي.

نبض الوداع

في مجملها، تقدم المقالة قراءة نقدية تجمع بين الأفق الفني والوعي الثقافي، وتكشف عن ثراء جمالي وفكري لمجموعة (نبض الفكرة)، وتمنحها ما تستحقه من تأمل معمق، واحتفاء باللغة بوصفها حديقة ممتلئة بالعطر والألم معًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى