الذكاء الاصطناعي إذ يصير شاعرًا

بقلم: د. عماد بسام غنوم
لا شك في أننا بتنا اليوم نعيش في عالم متطور ومتقدم على الصعيد التكنولوجي، ويشكل الذكاء الاصطناعي وتقنياته وتطبيقاته اليوم أبرز أشكال هذا التطور التكنولوجي، وقد دخل الذكاء الاصطناعي مختلف مجالات العمل واقتحم حياة الأفراد والجماعات، ولم يقتصر استخدامه على ناحية من نواحي الحياة، بل بتنا نجده في التعليم والصحة والقضاء وحتى في الحروب وتحديد الأهداف العسكرية.
فما هو الهدف الأسمى لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي؟ وما الاستخدام الأمثل لهذه التكنولوجيا المخيفة؟ بل ربما السؤال الأفضل هو ما الذي يريده الإنسان من الذكاء الاصطناعي؟
في البداية علينا أن نشير إلى مفهوم الذكاء الاصطناعي، ولا بد من القول إن الذكاء الاصطناعي تقنية تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي، ولكنه لم يبلغ شهرته اليوم إلا بعد أن أطلقت شركة Open AI تطبيقها للذكاء الاصطناعي ChatGpt الذي بات متاحًا للعامة منذ العام 2022م.
وبشكل عام فإن الذكاء الاصطناعي فرع من علم الحاسوب، ويعرف الكثير من المؤلفات الذكاء الاصطناعي، على أنه: «دراسة وتصميم العملاء الأذكياء»، والعميل الذكي هو نظام يستوعب بيئته ويتخذ المواقف التي تزيد من فرصته في النجاح في تحقيق مهمته أو مهمة فريقه. هذا التعريف، من حيث الأهداف والأفعال والتصور والبيئة يرجع إلى روسل ونورفنغ وتشمل أيضًا التعريفات الأخرى المعرفة والتعلم كمعايير إضافية، وقد صاغ عالم الحاسوب جون مكارثي هذا المصطلح بالأساس في عام 1956م، وعرَّفه بنفسه بأنه «علم وهندسة صنع الآلات الذكية»، ويعرِّف أندرياس كابلان ومايكل هاينلين الذكاء الاصطناعي بأنه قدرة النظام على تفسير البيانات الخارجية بشكل صحيح، والتعلم من هذه البيانات، واستخدام تلك المعرفة لتحقيق أهداف ومهام محددة من خلال التكيف المرن.
لكننا وجدنا أنه من الطريف أن نطلب منذ الذكاء الاصطناعي أن يعرف نفسه، في ظل غياب تعريفه من المعاجم اللغوية حتى اللحظة، فعند سؤال تطبيق ChatGpt عن تعريف الذكاء الاصطناعي قال: «الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) هو مجال من مجالات علوم الحاسوب يهتم ببناء أنظمة وبرامج تمكّن الأجهزة والأنظمة الحاسوبية من تنفيذ مهام تتطلب التفكير الذكي الشبيه بالإنسان. الهدف من الذكاء الاصطناعي هو تطوير أنظمة تكون قادرة على التعلم من البيانات والخبرة، واتخاذ قرارات ذكية بناءً على هذا التعلم دون التدخل البشري المباشر».
تعتمد التقنيات في الذكاء الاصطناعي على الاستفادة من الأساليب الحسابية والإحصائية والتعلم الآلي والتعرف على الأنماط والذكاء الحسابي لتمثيل البيانات والمعرفة ومحاكاة عملية التفكير واتخاذ القرارات. لا يستطيع أحد أن يشكك اليوم في قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم الجمل والعبارات في مختلف اللغات، أو في قدرته على تأليف نصوص وجمل وعبارات في لغات متعددة، مع الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي نفسه لا يدرك عدد اللغات التي يتقنها، فقد أجاب ChatGPT عند سؤاله على عدد اللغات التي يستطيع استعمالها بالتالي: «أنا قادر على التعامل مع نصوص في مجموعة واسعة من اللغات، ولكن يمكنني تحديدًا فقط إدراك السياق والتفاعل بشكل كامل في اللغة الإنجليزية. لا يعني ذلك أنني لا أستطيع التفاعل بلغات أخرى، ولكن قد تكون الاستجابات أكثر دقة وفهمًا في اللغة الإنجليزية. إذا كنت ترغب في التفاعل بلغة معينة، يمكنك تحديد اللغة التي ترغب في استخدامها، وسأحاول تقديم أفضل إجابة ممكنة». أما تطبيق الذكاء الاصطناعي الخاص بشركة مايكروسوفت والتابع لمتصفح البحث لديها Bing فقد قال: أستطيع التحدث بالعربية، والعديد من اللغات الأخرى».
نريد كل شيء!
سألني صديق ذات مرة ونحن نتحدث عن هذه التقنية المذهلة، ماذا نريد من الذكاء الاصطناعي؟ فأجبت بسرعة: «نريد منه كل شيء! نريد أن يحل مكاننا ويفعل كل ما يفعله البشر». لذلك نجد اليوم أن الكثيرين من العلماء والباحثين يسعون إلى وضع الذكاء الاصطناعي مكان الإنسان في كل المواقع، وقد طُلب بالفعل من الذكاء الاصطناعي أن يكون معلمًا ومحاميًا وطبيبًا، كما طلب منه أن يكون قاضيًا أيضًا… هذا فضلًا عن الأدوار التقليدية في العمل والخدمات الروتينية واليومية في البيوت والمصانع والمؤسسات المختلفة، وقد كانت النتائج مذهلة وغير متوقعة، حيث نجح الذكاء الاصطناعي في تأدية هذه المهمات بدقة وكفاءة.
إلا أن الأمر لم يقتصر على هذه النواحي، بل قام كثيرون بجعل الذكاء الاصطناعي يرسم اللوحات ويصمم الصور، ويؤلف المقطوعات الأدبية بل وينظم الشعر أحيانًا، وهكذا بتنا نبحث عن الفنانين والشعراء وسط التقنيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وهنا يمكننا القول إن الذكاء الاصطناعي اقتحم مجالًا إنسانيًا بحتًا، فلم يسبق لكائن أو جماد أن قام بعمل إبداعي أو فني ذي بُعد جمالي وفلسفي وفكري.
وبغض النظر عن نجاح تجربة نظم الشعر بالنسبة للذكاء الاصطناعي أو فشلها، فقد عدّ الكثيرون عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على نظم الشعر كالبشر إلى يومنا هذا بسبب افتقاره إلى أهم عناصر العملية الإبداعية، وهي: التخيّل والمشاعر والتجربة، وهي أمور إنسانية بحتة حتى الآن.
وبات السؤال الآن لو تطورت التكنولوجيا أكثر فأكثر وصار بإمكاننا أن نجعل الذكاء الاصطناعي يتخيل ويشعر ويحس، يُحبّ ويكره ويغضب ويحزن ويعيش تجارب البشر كما يعيشونها، فهل يستطيع أن يصير شاعرًا حقيقيًا ينافس كبار شعراء العالم؟! وهل نريد نحن من الذكاء الاصطناعي أصلًا أن يصير شاعرًا؟!
تقول الكاتبة الإيطالية جوانا ماجيسيوسكا: «أريد أن يقوم الذكاء الاصطناعي بغسل الملابس والصحون حتى أتمكن من ممارسة الفن والكتابة وليس أن يقوم الذكاء الاصطناعي بممارسة الفن والكتابة حتى أتمكن من غسل الملابس والصحون».
يوافق الكثيرون على رؤية ماجيسيوسكا لدور الذكاء الاصطناعي، أي أن يقوم بتخفيف أعباء الحياة اليومية على البشر ليتمكنوا من الإبداع والابتكار، وليغنوا الثقافة والحضارة بتجارب جديدة وأعمال إبداعية أصيلة نبيلة.
دور البشر في الإبداع
ولكن ماذا لو صار الذكاء الاصطناعي شاعرًا؟ هل سينتهي دور البشر في الإبداع والابتكار والتأليف؟ أم أن المنافسة ستشتد ونرى إبداعات جديدة ومتفوقة؟
كل هذه الأسئلة تفتح الآفاق أمام العقل البشري، وتطلق مرحلة جديدة من ترقب الإجابات التي ستحملها لنا الأيام المقبلة، فصحيح أن الذكاء الاصطناعي قد يُشيّئ الإنسان ويخضعه للآلة التي صنعها، ولكن يمكنه أيضًا أن يتيح له الوقت لمزيد من الخيال والابتكار وأن يزيل عن كاهله بعض ما يثقله من حياة القرن الواحد والعشرين، ويساعده في أعماله اليومية حتى يجد الوقت لتجارب إنسانية جديدة ورائدة وملهمة.
إن الذكاء الاصطناعي لايزال في بداياته الأولى، ويمكن تشبيهه بطفل يحبو، ومهما يكن من واقعه اليوم إلا أننا ننتظر من تطبيقاته في المستقبل أن تتجاوز كل العقبات التي تواجهه في إنتاج نصوص لغوية تحاكي الإنتاج البشري، وحتى ذلك الوقت فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي لا تزال متأخرة عن عملية إنتاج اللغة عند البشر، إذ لا يزال على الذكاء الاصطناعي فهم اللغة الإنسانية وإبداعها بشكل منفصل عن البيانات الضخمة التي يحاكيها، وهو ما يقوم به دماغ طفل في الرابعة من عمره، وعليه أيضًا أن يولد معرفة إضافية من معلومتين عن طريق الاستنتاج والتحليل، وهذا ما لا يفعله حتى اللحظة.
وأخيرًا عليه أن يفك أسرار الدماغ البشري، ويقدم لنا كل ما نحتاج معرفته عن إنتاج اللغة والشعر والأدب والفن في الدماغ، وهو الأمر الذي يبدو أنه ما زال بعيدًا.
لكننا متأكدون من أن علماء اللغة واللسانيين ومهندسي برامج الذكاء الاصطناعي يحتاجون إلى مزيد من التعاون، حتى نصل إلى اللحظة التي يستطيع فيها الذكاء الاصطناعي أن يقوم بكل شيء نريده، وأن يحل مكان الإنسان نفسه في كل مجال.