أقلام

وحيُّ الأنبياء

عماد آل عبيدان

قراءة نقدية في أفق الروح واللغة –

رؤيا الشعر بين الغرق والخلاص

منذ القدم، والشعر يحمل في طيّاته همّ الإنسان في رحلته الوجودية، متأرجحًا بين غواية الدنيا ونور الحقيقة. وفي هذا السياق، تأتي قصيدة “وحي الأنبياء” للشاعر الأستاذ محمد جعفر الحيراني كنص يستلهم هذه الجدلية العميقة، حيث يتماهى الصوت الإنساني في صراعه الأزلي بين الغرق والخلاص، مستندًا إلى رموز تتقاطع فيها الأبعاد القرآنية والصوفية بلغة مشرقة موسيقية. فهذه القصيدة ليست مجرد تجربة فردية، بل انعكاس لحالة إنسانية أزلية، حيث يسعى الشاعر، كغيره من المتصوفة والأنبياء، إلى تجاوز محنة التيه عبر لغة تمزج بين التأمل والبوح العرفاني.

الصوت الشعري وبُنية الخطاب:

يتبدّى الصوت الشعري في القصيدة كصوت متحوّل، يبدأ بتجربة الغرق في المجهول، ثم يتصاعد عبر الاعتراف بالمكيدة الدنيوية، ليبلغ في النهاية قمة التوسل والخشوع. هذا التحوّل ليس مجرد بنية شكلية، بل هو انعكاس داخلي لحالة الشاعر الذي ينتقل من التيه إلى الإدراك، ومن الحيرة إلى استبصار النور. فالنص مبني على تصعيد وجداني متدرج، حيث تتجلى ثنائية “الضياع والخلاص” التي تمنح القصيدة بُعدًا دراميًا يجعل القارئ في حالة تماهٍ مع التجربة.

وفي هذا التحليل، سنسبر أغوار النص، مستكشفين بنيته الفنية، وصوره المتوهجة، وتوتراته الإيقاعية، ومداراته الفكرية، لنكشف عن كوامن الجمال فيه، ونقف على سر هذه العذوبة الشعرية التي تجعل القارئ متورطًا وجدانيًا في مدّها وجزرها.

البنية اللغوية والتعبيرية:

القصيدة تُظهر ثراءً لغويًا مميزًا، حيث تتجلى العبارات في تكوينات حية نابضة بالصور الحسية والتشبيه والاستعارة. في المقطع الأول، تتلبس الذات الشعرية حالة التوهان وسط الأمواج، وهو توظيف رمزي قوي يعكس الضياع الروحي والذهني:

وَمَنْ تَاهَ فِي الأَمْوَاجِ: فِكْرًا وَمَرْكَبًا

وَمَنْ بَلَعَتْهُ، ثُمَّ مَجَّتْهُ لُجَّةٌ

هنا، تتقاطع الحيرة الوجودية مع صورة البحر العاصف، حيث يكون الماء رمزًا مزدوجًا: من جهة هو أداة هلاك وابتلاع، ومن جهة أخرى هو تطهير وإعادة خلق كما في السياقات الدينية.

ثم تأتي ثنائية السُكر والصحوة في المقطع الأوسط لتُشير إلى الانخداع بالمظاهر الزائفة للدنيا، وهذا تناص صوفي جميل مع تجارب المتصوفة الذين وصفوا الدنيا بالوهم الخادع:

سَكِرْتُ بِعُنْقُوْدِيْ، وَحِيْنَ الـمَدَى صَحَا

بِعَيْنَيَّ؛ أَدْرَكْتُ الحَمَامَةَ ثَعْلَبَا

فالشاعر هنا لا يكتفي بالتحول من السكر إلى الصحو، بل يُقدّم انقلابًا دراماتيكيًا في الصورة حين تنقلب الحمامة – رمز السلام والبراءة – إلى ثعلب، في إشارة إلى خداع الدنيا ومكائدها.

المعاني والدلالات بين التناص والرمزية:

تتطور القصيدة من توصيف الضياع في بدايتها إلى استجداء الهداية في نهايتها، حيث نجد الشاعر متخبِّطًا في بحر الحيرة والخذلان، ثم ينتقل إلى استقراء تجربة الاغترار بالدنيا حتى يكتشف أنها لم تمنحه إلا السراب، في قوله:

وَأَنَّ الَّذِيْ حَازَتْهُ كَفِّيَ لَـمْ يَكُنْ

سِوَى خَيْبَةٍ كَانَتْ تَجُرُّ مُخَيَّبَا

وهنا يتجلى البحر ليس مجرد خلفية مكانية، بل كيان حيّ يعكس التقلبات الداخلية، ورمزًا أصيلًا في التجربة الروحية التي عرفها الأنبياء والعرفاء، حيث يختبر الغارقون فيه معنى الخلاص الحق. كما أن استخدام البحر كرمز يتماشى مع مفاهيم الاضطراب والاختبار، كما ورد في قصة النبي يونس: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

في قمة التحول، تبرز المناجاة والاستغاثة، حيث يستنجد الشاعر بالهداية:

أَغِثْنِيَ يَا بْنَ الـمُصْطَفَى، وَارْوِ ظَامِئًَا

وهنا نلحظ حضورًا للبعد الديني الصوفي، إذ يتجلى المعنى الروحي في استعطاف آل النبي وطلب الشفاعة. كما يمكن ربط طلب النجاة بنداءات المتصوفة في استغاثاتهم المتكررة، حيث تعكس القصيدة صدى صلوات الغارقين في بحر الوجود، الباحثين عن نقطة ارتكاز في عالم يموج بالتيه..

الإيقاع والوزن:

القصيدة مكتوبة على البحر الكامل، مما أضفى عليها طابعًا إيقاعيًا قويًا، يناسب المشاعر المتدفقة بين التوجّع والرجاء. ويلاحظ استخدام التدوير في بعض الأبيات مما يعزز الموسيقية الداخلية للقصيدة:

وَتَرْعَى عَلَى رُوْحيْ غِرَاسَكَ وَالـمُنَى،

وَتَطْرُدُ عَنْهَا اليَأْسَ لَـمَّا تَوَثَّبَا

نجد في هذا البيت امتدادًا موسيقيًا جميلًا يحقق التدفق السلس بين الشطرين، مما يجعل القراءة أقرب إلى موجة صوتية تتماوج بين المعاني العميقة والإيقاع الرنان.

الإيقاع والوزن بين الموسيقى والوجدان:

القصيدة مكتوبة على البحر الكامل، مما أضفى عليها طابعًا إيقاعيًا قويًا يناسب تدفق المشاعر بين التوجّع والرجاء. ويبرز التدوير في بعض الأبيات، معززًا الموسيقية الداخلية للنص، كما في قوله:

وَتَرْعَى عَلَى رُوْحيْ غِرَاسَكَ وَالـمُنَى،

وَتَطْرُدُ عَنْهَا اليَأْسَ لَـمَّا تَوَثَّبَا

يمثل هذا البيت امتدادًا موسيقيًا سلسًا، حيث يتحقق التدفق بين الشطرين ليجعل القراءة أقرب إلى موجة صوتية تتماوج بين المعاني العميقة والإيقاع الرنان.

إنّ الإيقاع في القصيدة ينسجم مع المضمون الدرامي، فالاعتماد على البحر الكامل يمنحها جرسًا قويًا، بينما تسهم التدويرات الصوتية في إبراز حالة الانجراف النفسي بين النشوة واليقظة. كما أن التكرار الصوتي والتنويعات الموسيقية داخل البحر الكامل يعكسان حركة المدّ والجزر الوجداني، حيث تتعاقب الحيرة واليقين، والتخبط والسكينة، في نسق موسيقي متتابع، يجعل النص أقرب إلى ترنيمة روحية يتماهى القارئ معها وجدانيًا.

خاتمة؛ بين التأمل واليقين:

تتبدّى قصيدة وحيُّ الأنبياء كنص يفيض بالمشاعر العميقة واللغة الراقية، حيث تأخذ القارئ في رحلة متدرجة من الضياع إلى طلب الهداية. تميّزت القصيدة بمستوى بلاغي رفيع، وإيقاعٍ متين على البحر الكامل، وصور شعرية حية تمزج بين الحسّي والمجرد، مما يجعلها عملًا إبداعيًا يستحق التأمل والتحليل.

ولكنها في جوهرها، ليست مجرد قصيدة تُقرأ، بل تجربة يغمر القارئ في موجاتها المتكسّرة، متنقلًا بين الفقد والرجاء، وبين التيه واليقين. إنها نصٌّ تأمليٌّ يطرح سؤالًا يتجاوز حدوده: هل نحن، في نهاية المطاف، الغارقون أم الناجون؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى