المَنيّة قبل البنيّة: حينما تُعلّق لافتة على الجدار، وتُنسى آيات في الصدور

عماد آل عبيدان
في أحد المجالس، ونحن نتناول أطراف الحديث عن الأزواج وحقوق الآباء، مرّ بنا صديقنا بطرفة عجيبة، ولكنه قالها بكل جديةٍ ودهاءٍ ساخر، وكأنه يلقي قنبلة موقوتة مغموسة في سكر الضحك:
“تدرون؟ خالة زوجتي معلّقة في بيتها لوحة تقول فيها: المنيّة قبل البنيّة!”
ضجّ المجلس بالضحك. حتى من لم يكن متزوجًا، ضحك خوفًا من مستقبله.
ولكن، خلف هذه الفكاهة الشعبية المألوفة، يكمن جدارٌ سميك من الواقع الاجتماعي والنفسي، تُكتب عليه شعارات لا تمحوها الأيام بسهولة، بل تتأصل كأنها شريعة مقدّسة رغم بعدها عن شرع الله نفسه.
حين يتحول الزواج الثاني إلى محرَّم لفظي
ما إن يفتح الرجل فمه بقولٍ يمهّد فيه -ولو تلميحًا- لفكرة الزواج بأخرى، حتى تهبّ عاصفةٌ عاطفية، ليس من زوجته وحدها، بل من المجتمع بأكمله:
“حرام عليك!”
“ليش تكسر قلبها؟”
“ما عندك دم؟”
تُلقى عليه تهم الخيانة والغدر والأنانية، وكأن فكرة الزواج بأخرى هي فعل فجور لا غاية له سوى إيلام الطرف الآخر.
ونسأل أنفسنا: متى صار الحلال ثقيل اللفظ؟ ومتى صرنا نخجل من آيات القرآن إن جاءت على خلاف العاطفة؟
لافتة خالة الزوجة: جدارية الخوف وقلق النساء العميق
حين كتبت تلك السيدة “المنيّة قبل البنيّة”، لم تكن تمزح. ولم تكن –ربما– تدرك أنها عبّرت عن هواجس آلاف النساء، من خوفٍ دفين أن تفقد مكانتها، قيمتها، أو أن يُستبدل بها غيرها في لحظة.
هذا الخوف ليس وهمًا، بل هو ناتج عن ثقافة ممتدة رسّخت أن المرأة لا تُؤمَّن إلا بالثبات العاطفي، والزوج إن أحب، فلا يحق له أن يحب مرة أخرى.
وهنا المعضلة: نحن أمام صراع بين العاطفة والشرع، بين الغيرة الفطرية والحلال الإلهي.
“حرام عليك!”: حين تتحول المشاعر إلى فتاوى
عبارة “حرام عليك” حين تُقال للرجل إذا فكّر في التعدد، هي قمة المفارقة. لأنها تحرّم ما أحلّه الله، وتحرّض على رفض شرعي بدافع عاطفي.
ولا نلوم النساء هنا، بل نرصد ما يصنعه المجتمع حين يزرع في عقولهن أن التعدد إهانة، لا حق مشروع. إن الزواج بأخرى خيانة لا نية شرعية معتبرة.
وهنا تجدر الإشارة- حتى لا يُؤخذ علينا القول- أن هذه المقالة لا تُروّج لزواج الرجل بامرأة ثانية كما لو كان إعلانًا تجاريًا، ولا تُحرّض على فكرة التعدد كأنها انتصار للرجولة أو تحدٍ للمرأة. بل هي رصدٌ صادقٌ لحالةٍ اجتماعيةٍ معاصرة، يُعاني منها الرجل والمرأة والأبناء والمجتمع بأسره، ونحاول أن نفككها بوعي، وليس بسخرية مؤذية، ولا بتحيّز جاف.
الوحدة القاتلة… وقصص لا تُروى إلا في الصمت
ومن أغرب فصول هذه المسرحية الاجتماعية، أن الرجل إذا تُوفيت زوجته – رحمها الله – وأراد أن يتزوج بعدها، قفز الأبناء – ولو كانوا على مشارف التقاعد – قائلين بصوت واحد:
“تزوج؟! لا يا يبه، تعيش على ذكراها، وحنّا معك.”
وكأن العزاء الأبدي هو البديل عن الأنس، وكأن الحياة توقّفت في لحظة الدفن!
وإن أرادت الأم الزواج بعد وفاة الأب، قامت الدنيا عليها ولم تقعد:
“تبين تروحين لبيت رجال غريب؟!”
“عيب، وش يقولون الناس؟”
“وش ما كفيناك حنان؟”
ويُنسى – ببلادة مؤلمة – أن الأم أو الأب ليسا تمثالين في زاوية البيت، بل أرواحٌ تشتهي الدفء، وتحتاج من يُحادثها، من يسمع أنين ليلها، ويرافق شيخوختها.
فالإنسان لا يأكل وحده فقط، بل يفرح وحده، ويحزن وحده، ويشيخ وحيدًا حين يُمنع من الألفة، وتُغلق عليه أبواب الحياة باسم العيب والعاطفة المغشوشة.
الفكاهة تُظهر الحقيقة: مسرح اجتماعي حقيقي
الطرافة في قصة اللافتة ليست في عبارتها فقط، بل في أنها تحوّلت إلى قانونٍ منزليٍّ ساخر، تتداوله النساء بينهنّ، ويضحك الرجال منه وفيهم رعدة، ويكتبه الناس في “الواتساب” وعلى “السناب”، وكأنها دستورٌ غير مكتوب!
وهنا، لا بد أن نقول:
هذه المقالة ليست تهكمًا على النساء، ولا تحريشًا على التعدد، ولا تطبيعًا لجرح المشاعر.
بل هي دعوة إنسانية للتأمل في واقعٍ نعيشه، بكل تناقضاته ومآسيه، وفكاهته أيضًا. فالمجتمع ليس رجلًا ضد امرأة، ولا زوجة ضد زوج، بل هو مائدة يجلس حولها الجميع… وكلٌ يحتاج أن يُسمَع.
الشرع لا يصطدم بالمشاعر، ولكنه لا يُسجن فيها
الله سبحانه وتعالى لم يغفل عن مشاعر الزوجة. ألم يقل في كتابه:
“ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”؟
فالعدل العاطفي صعب، والله يذكره في كتابه، ولكنه مع ذلك لم يمنع التعدد، بل قيّده بالعدل المالي والمعيشي.
فالعاطفة ليست وحدها حَكَم التشريع، لكنها مأخوذة بالحسبان. لا يُجبر الرجل على التعدد، ولا تُكره المرأة على تحمّل الظلم، ولكن لا يُمنع المباح خوفًا من زعلٍ أو دمعة.
هل من حل؟
نعم. ولكنه ليس في تعليق لافتة، ولا في خنق رجل، ولا في قمع مشاعر امرأة.
الحل في توازن جديد:
• أن لا يُقدم الرجل على الزواج الثاني إلا بنيّة صادقة، وحكمة واضحة، لا لهوًا ولا عبثًا.
• وأن تفهم المرأة أن شرع الله لا يُختار منه ما يعجب، ويُرفض ما لا يُناسب العاطفة.
• وأن يُربّى الأبناء على أن حب الوالدين لا يعني سجنهم في حنيننا، بل إطلاقهم نحو ما يسعدهم.
في الختام
قد تُضحكنا لافتة “المنيّة قبل البنيّة”، ولكنها تبكينا من طرفٍ آخر. لأنها تكشف عن خلل في الفهم، وثقافة تهرب من شرع الله إلى كهف الخوف.
ولذلك، نقولها بيقين: هذه المقالة ليست ضد المرأة، ولا ضد الرجل، بل ضد الجمود، وضد الجهل، وضد مجتمعٍ يُجمّل العاطفة على حساب الفطرة والعقل.
فلنكن أكثر ودًا، وأكثر وعيًا.
ولنقل للحياة الزوجية: “كوني سكينة”، لا “ساحة معركة”.
وللنكتة التي نضحك منها: “شكرًا لك، ولكننا سنصحح ما وراءك!”