الضمير الغائب وإنعاشه

أمير الصالح
أخذ يتنهد بصوت مسموع وبلكنة مخنوقة وهو محتبس دمعته بين مقلتي عينيه قائلًا: ” حسبي الله ونِعم الوكيل ! لقد ذهبت أموالي وكل مدخراتي وزهرة شبابي وعناء غربتي أدراج الرياح! كنت أحلم أن أمتلك بيتًا بعد طول اغتراب! لقد لعب المخادعون والكذابون والمزورون والمدلسون والمحتكرون بالسوق والعملة والعقار والأسهم، فأصبحت أحلامي سرابًا بعد طول عناء! ” تعاطفت معه إنسانيًا وحاولت أن أخفف عنه وأواسيه وإن لم أكن أعرفه، إلا أن صورة اصفرار وجهه علقت في مخيلتي لبعض الوقت، وتألمت لما حدث له ولآلاف الناس الكادحين من أمثاله حول العالم. تساءلت كيف يبرر وكيف يتجاوز المدلس والكذاب والمخادع والمحتكر والخائن والغشاش تانيب ضميره عند ارتكابه لجريمته وتزويره واختلاسه واحتكاره؛ وهل هناك أمل من إنعاشه وإصلاح حاله؟!
الضمير هو رقيب ذاتي داخلي على الإنسان، ومن يقتل ضميره باقتراف الخطايا والفواحش والجرائم والاحتكار والسرقات والغش والتدليس يصبح ذلك الشخص خطرًا على نفسه وأسرته ومجتمعه ودينه ووطنه والإنسانية كافة. الكذاب والمخادع والمحتكر والخائن والغشاش والمدلس غالبًا ما يستخدمون آليات دفاع نفسية وتلاعبًا بالواقع وتحايلًا على ذواتهم أولًا لخنق صوت الضمير، ثم على من حولهم لتبرير تصرفاتهم وسلوكهم ومواصلة طريقهم نحو مآربهم دون ندم أو رادع أو تانيب ضمير أو مراجعة ذاتية.
الكل منزعج من الخسائر التي يتسبب في إحداثها الكذاب والمخادع والمحتكر والخائن والغشاش والمدلس والمزور والمرتشي؛ ويبدو لي وحسب قراءتي لبعض الكتب، ومشاهدة بعض الأفلام الوثائقية عن الفضائح المالية العالمية، وبعض حلقات البرامج التثقيفية بأن هناك أدوات بسيطة وأدوات معقدة يستخدمها البعض للتحايل على ضميرهم في بداية مشوار امتهانهم للكذب والخداع والاحتكار والتملق والتدليس والرشوة. وأورد منها سبع طرق مع الأمثلة:
1. أداة التبرير الذاتي (التسويغ النفسي)
– يخدع نفسه بأن أفعاله مشروعة أو من الضرورات التي تبيح المحرمات، مثل:
– كان يخاطب ضميره بأن الاحتكار ضروري لتحقيق الأرباح!
– وأن الكذب كان لإنقاذ الموقف! أو أن الكذب كان كذبًا أبيضًا أو أنها مجرد كذبة ولا أحد تضرر منها
– الحاجة تبرر الوسيلة، كقول أحدهم: من أراد شيئًا لا بد أن يضحي بشيء حتى لو كان ذلك يمس القيم!
– تبرير الخيانة بأنها كانت بسبب إهمال الطرف الآخر! أو عدم استحصال الكفاية من المصادر الطبيعية أو المتوافر غير كاف أو متطلبات الحياة تستوجب المشي البطال أو (اللي يمشي مستقيم ما يعيش) أو (اللي عاش على المعاش ما عاش) !! او كما يروج له بعض مخرجي الأفلام بأن ذلك ” لقمة عيش” والواقع أنها لقمة حرام في حرام.
2. أداة الإنكار والتنكر والهروب من الحقيقة
– ينكر أولئك الأشخاص الخطأ تمامًا، وقد يصل بهم الأمر إلى تصديق أكاذيبهم ووسواس شياطينهم؛ كما في اضطراب الشخصية النرجسية أو السيكوباثية والانتهازية.
– مثال: المحتكر يقول لضميره : “أنا أخدم السوق!” بينما هو في الراقع يخنق المستهلكين ويدمر القوة الشرائية للعملة المحلية ويرفع الأسعار، ويثير الريية والشكوك حول استقرار السوق.
3. أداة إلقاء اللوم على الضحايا أو الظروف
– يتحايل المخادع على ضميره بإلقاء اللوم على الآخرين عبر خطابه لذاته ونفسه بالخطابات التالية:
– “لو كانوا أذكياء، ما خُدعوا!”
– الناس تستحق أن تُخدع لأنها جاهلة! قطيع!حمقى! أميون ! لا يفقهون الأمور.
– اولئك جزم مليانة فلوس
– الله خلقهم أغبياء علشان نستفيد من البهايم!
4. أداة التعود على الفعل الخاطئ حد التفاخر بالذنب
– كلما كرر الشخص السلوك السيئ، ذبل وضعف ضميره تدريجيًا حتى يستمرء الفعل ويصبح جزءًا من يومياته وممارساته العادية.
– مثلًا: المدلِّس الذي يعتاد التلاعب بالمعلومات ولا يعد يرى ذلك مشكلة. أو تزوير القوائم المالية ليروج بأن هامش العائد جذاب للاستثمار؛ أو نفخ تقييم الأموال عبر شراءات وعقود وهمية ومبالغ فيها؛ أو عبر استدرار عواطف عوام الناس بأن المنتج وطني أو محلي وهو غير ذلك وذو كفاءة أو جودة منخفضة.
5. أداة الاستفادة المادية أو المعنوية فوق كل اعتبار
– إذا كان الفعل الخاطئ يُدر عليه منفعة (مال، سلطة، متعة، وجاهة، بروز ، تقرب لأصحاب النفوذ)، فإنه يُقدِّم المصلحة الشخصية على القيم والأخلاق والمبادئ.
– مثلًا: الخائن العاطفي قد يستمر في خياناته مع النسوان لأنه يستمتع بالإثارة دون اعتبار لمشاعر الآخرين ولسمعته ولمجد أسرته.
6. القسوة وغياب التعاطف مع الضحايا (الاعتلال النفسي أو السيكوباثية)
– بعض الأشخاص لا يملكون ضميرًا بطبيعتهم، خصوصًا من يعانون من:
– اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial Personality Disorder).
– النرجسية المرضية (Narcissistic Personality Disorder). وهؤلاء كُثر في الشركات ومواقع الأعمال التنافسية حيث لا هوادة ولا رأفة بالعمال.
7. أداة التستر وراء الدين أو المبادئ بهتانًا وزورًا
– يستخدم البعض أغطية أيديولوجية أو دينية أو أخلاقية أو شعارات إنسانية لتمرير ولتبرير أفعالهم المشينة، مثل:
– هذا احتكار حلال، لأن السوق حر!
– أنا أذكى منهم ومن حقي أن أستغل ذكائي
– يردد قول إن الله أحل البيع وحرم الربا، ولكنه في الوقت ذاته يبيع المواد والسلع بربح فاحش جدًا.
هل هناك أمل في إصلاح ضمائر أولئك الفاسدين:
قد تفشل أدوات النصح والتحذير والإعراض عن أولئك المخادعين أصحاب الضمائر الميتة، ولكن رد الحجر لأصله ومداوة الحديد بالحديد مُجدٍ في وضع المراهم.
– توظيف أفعال المخادعين / المحتكرين ضدهم إذا كان الكذب أو الخداع أو الاحتكار يمنحهم قوة أو مالًا، فلن يتوقفوا عن أعمالهم إلا إذا خسروا أكثر مما يكسبون، أو وجدوا أنفسهم معزولين.
– الرقابة والعقاب: إذا لم يُحاسَبوا قانونيًا بسبب إجادتهم في ضبط الدفاتر، وتزوير القوائم المالية، وإتقان لعبة الاحتكار للعقار والسلع، فإن الرقابة والعقاب الاجتماعي سيأتي بنتائج ولو بعد حين.
– الدعوة والتوجيه والنصح لأولئك الأشخاص بحضور جلسات معالجة الاضطرابات السلوكية وإحياء الضمير، وإحياء النفس اللوامة، بعضهم لا يستطيع التغيير من داخل نفسه لأنه يفتقر إلى التعاطف أو النقد الذاتي، ولكن بعض عناصر المجتمع ورجال الأخلاق والدين يستنهضون ضمائرهم للأفضل.
كيف نتعامل مع المخادع والكذاب والمدلس والمحتكر؟
1. عدم الانخداع بتبريراتهم، فهم خبراء في التلاعب ولي عنق الكلمات والآيات وإجادة توظيف الأحداث.
2. وضع حدود صارمة عند الاضطرار للتعامل معهم – لا تمنحهم فرصًا متكررة لأنهم مخادعون.
3. المحاسبة القانونية أو الاجتماعية – فبعضهم لا يتغير إلا بالعقاب أو المقاطعة أو العزل.
4. الحذر من استغلالهم للمشاعر؛ فهم يستخدمون كل صور التعاطف ضد ضحاياهم للخداع.
حفزني لكتابة هذه الأسطر من جديد بعد أن كتبت فيها سابقًا:
قول الله جل جلاله (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا وَإثْمًا مُبِينًا)، سورة النساء، آية 112، وكذلك مشاهدة مختصرة لأحداث فيلم Dragon الهندي واستعراض مختصر للمسلسل العربي ” رحلة ع.ع “، وتقلب الأسواق العالمية في حقل الذهب والعملة والسندات والأسهم حسب عرض ” المخبر الاقتصادي” حلقة يوم ١٧ أبريل ٢٠٢٥.
نادى المخلصون الأوفياء بأعلى أصواتهم ونشد على نداءهم لمن ابتلي بموت ضميره بأن باب التوبة مفتوح وأن التوبة متاحة لمن أرادها؛ فلا يهمل الدخول كسلًا أو تسويفًا من أراد التوبة، وليتقِ الله قبل انصرام المدة.