أقلام

رحمة الله: كنز السماوات المفتوح… فهل تجرؤ على الاقتراب؟

أحمد الطويل

مقدمة:

في عالمٍ يعجّ بالصخب، وتتنازع فيه الأرواح بين شهوةٍ وخطيئة، وبين قلقٍ وحرمان، تظل هناك ومضة في القلب لا تنطفئ، صوتٌ داخلي يهمس لك وسط العتمة: “هل من رحمة؟” نعم، هناك رحمة، رحمة عظيمة، واسعة، لا يحدّها وصف، ولا يُقفل بابها، ولكنها لا تُمنح اعتباطًا، إنها تُطلب بدمع العيون، وبصدق النوايا، وبانكسار القلوب أمام الجلال الإلهي.

رحمة الله ليست فكرة، بل زلزال يغير الأرواح

حين يقول الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، (الأعراف: 156)، فهذا إعلان سماوي: أن لا أحد خارج حدود رحمته، لا مذنب، ولا مهموم، ولا تائه إلا من أعرض!

الرحمة ليست شعورًا عابرًا، بل نورٌ يخترق الظلام، يغيّر مسار حياة كاملة. إنها “تحول” في داخلك من الخوف إلى الأمان، من القسوة إلى الحنان، من الذنب إلى المغفرة. إنها طوق النجاة في بحر الفتن.

مفتاح الرحمة يبدأ بالمعرفة ولكن أي معرفة؟

ليست كل معرفة توصلك. فالمعرفة الحسية ترى الظواهر، والعقلية تفسر، والنقلية ترشدك بالنصوص، لكن المعرفة الوجدانية… آه! إنها تلك التي تجعلك تبكي في صمت لأنك “شعرت” بالله يراك، وسمعت نداءه في داخلك.

وهنا يكمن السر

قال الإمام الصادق عليه السلام: “ليس العلم بكثرة التعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله أن يهديه”، (الكافي، ج1، ص49). الرواية ليست مجرد مقولة بل مفتاح لفهم معنى الرحمة والمعرفة معًا. فالإمام الصادق عليه السلام يُعلّمنا أن العلم الحقيقي ليس هو الذي يُكدَّس في الذهن، بل هو نور، أي تجلٍ إلهي، يقع في القلب حين يهيأ صاحبه للهداية. وهذا النور، إذا أنار القلب، صار العلم حيًا لا ميتًا، فعالًا لا نظريًا. وهنا تصبح المعرفة طريقًا للرحمة، لأنك عرفت ربك، وعرفت نفسك، فأقبلت متذللاً، مستغيثًا، فغمرتك رحمته.

اجلس مع نفسك، تجرّد، اسأل الله من أعماقك: “يارب، أرني حقيقتي، أرني حقيقتك في قلبي، علّمني العبودية.” وستُدهش كيف يفيض الله عليك من علمه، من رحمته، من نوره!

الرسول وأهل بيته مرايا تمتلئ رحمةً

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). النبي محمد صلى الله عليه وآله لم يكن رحمةً بالكلام فقط، بل كان تجليًا حيًا لها. كل كلمة منه، كل نظرة، كل صبر، كل دعاء في جوف الليل لأجل أمته كان يصرخ بالرحمة!

ومن بعده أهل بيته الأطهار، كانوا امتداد هذا النور. في دعاء الإمام الصادق عليه السلام نقرأ:

“اللهم اجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني، واليقين في قلبي…”

(الكافي، ج2، ص482)

إنه دعاء من لا يريد أن يرى بعينه فقط، بل بقلبه، من لا يريد المعرفة فقط، بل يريد رحمة تغيّر مصيره.

هل تريد الرحمة؟ قم واسلك الطريق!

الرحمة لا تُمنح للمتفرجين.

الرحمة تأتي لمن تهيأ، لمن تاب، لمن اغتسل من الذنوب، لمن رفع يديه في ظلمة الليل وقال: “يا دائم، أتوجه إليك بمحمد نبيك نبي الرحمة…”، (الكافي، ج2، ص488).

الإمام الصادق عليه السلام يعلّمنا حتى كيف نغتسل:

“اللهم طهّر قلبي، وتقبل سعيي، واجعلني من التوابين والمتطهرين…”

(تهذيب الأحكام، ج1، ص365).

إذًا، السعي، التوبة، التوكل، الذلّ لله، هذا هو طريق الرحمة الحقيقي.

مراتب الأرواح وأنت قادر على الوصول!

نعم، هناك مراتب في الأرواح. الأنبياء، الأوصياء، أولي العزم، كلٌّ منهم صعد في مدارج الروح حتى بلغ مرتبة النور الكامل.

وأنت؟

أنت مخلوق لذلك!

لكنك تحتاج أن تتواضع، أن تخلع عنك قيود النفس، أن تقول: “يا رب، لست شيئًا، اجعلني شيئًا بك.”

إهمس لقلبك وتقرب إلى ربك، ولا تكتفِ بما عندك تجرأ واقترب!

الخلاصة

كيف نصل إلى رحمة الله؟

الرحمة الإلهية متاحة، لكنها لا تُنال إلا بقلبٍ ساعٍ، ونفسٍ خاشعة.

المعرفة الحقيقية هي البداية: حسية، عقلية، نقلية، ووجدانية، لكنها تثمر فقط حين تتجلى في وجدانك.

العلم نور، لا يُؤتى إلا لمن يريد الله هدايته، ويطلبه بتواضع العبودية، كما قال الإمام الصادق عليه السلام.

النبي محمد وآل بيته هم مفاتيح الرحمة، والتوسل بهم جسرٌ نحو نور الله.

العمل والتوبة هما شرط الوصول: الرحمة تُطلب بالتحرك لا بالتمني.

الدعاء الصادق من الأعماق هو لحظة الانكشاف، لحظة اللقاء الحقيقي بالله.

اللهم لا تحرمنا من رحمتك، ولا تترك قلوبنا في ظلمة الغفلة، اللهم اجعلنا ممن إذا طرقوا بابك وجدوه مفتوحًا، ومن الذين تذوقوا لذة العبودية، وذاقوا برد الرضا، وصلِّ اللهم على محمد وآل محمد، نورك في أرضك، وسرّ رحمتك بين عبادك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى