موت العالم خسارة لا تعوض
د. ابراهيم المسلمي
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة(، فيعد رجل الدين في المجتمع الإسلامي أباً روحياً حيث يرى أبناء المجتمع أن دينهم الذي هو أغلى ما يمتلكوه يتمثل في شخصية العالم، ليس ذلك فحسب، بل يرون أن رجل الدين قدوة يحتذى بها في كل جوانب الحياة سواء في الأمور الدينية أو الدنيوية.
ولا يصل رجل الدين إلى هذه المرحلة في قلوب الناس إلا بعد أن يقضي معظم عمره وجهده في التحصيل العلمي داخل الحوزات العلمية لسنوات عدة، والأخذ بتوجيهات أساتذته الربانيين ومجاهدة نفسه وهواه للوصول إلى أعلى مراتب التقوى والورع ونكران الذات والتضحية لأجل إيصال علوم الدين لأبناء المجتمع وحل الإشكالات ودفع الشبهات وربط الناس بخالقهم .
وقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يُقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يُرخص لهم في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره) .
وبعد هذا الجهد في التحصيل العلمي وجهاد النفس يقوم طالب العلم بإرشاد المؤمنين في إصلاح ما فسد من أمور دينهم سواء العقائدية أو الأخلاقية وإصلاح شئون حياتهم وحل مشاكلهم الاقتصادية أو الأخلاقية أو السياسية حسبما تقتضيه المصلحة العامة.
وما كان فقيدنا الراحل سماحة العلامة الشيخ هلال المؤمن, قدس الله سره, إلا نموذجاً للعالم المجاهد والعابد الزاهد الذي قضى شبابه في تعلم علوم أهل البيت عليهم السلام بين الإحساء والنجف الأشرف ثم قم المقدسة حتى استقربه المقام بين أبناء أسرته ومجتمعه في مدينة الدمام ملتزماً بإقامة صلاة الجماعة وتفقيه المؤمنين بأحكام دينهم وحل خلافاتهم ومشاركة أبناء مجتمعه أفراحهم وأتراحهم ممتثلاً لقول الإمام الجواد عليه السلام: (من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليفضلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).
كما كان, رضوان الله عليه, يؤكد على إقامة وحضور مجالس أهل البيت عليهم السلام وزيارتهم وقد حج واعتمر أكثر من مرة. ومما اتسمت به شخصية الفقيد الراحل التواضع للصغير والكبير على الرغم من علو شأنه ومكانته العلمية وكبر سنه حيث لم يخل محياه من الابتسامة لمن يلقاه والدعابة لمن يعاشره ويجالسه.
أما في الجانب العلمي والمناظراتي، فقد كان يتميز في إبداء رأيه العلمي الرصين المرتكز على الدليل العلمي والعقلي من القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام من غير تشنج ولا تعصب ولا استفزاز للطرف الآخر وهذا ما لمسته شخصياً في النقاش العلمي معه. وبرزت قوته العلمية وتطبيقها على الواقع من خلال مشاركته في جلسات إثبات الهلال في (مجلس الاستهلال بالقطيف والدمام) حيث كان يعارض في بعض الأحيان بقية الفضلاء في المجلس بالدليل والبرهان ويكون رأيه هو الأقرب للواقع والحقيقة وهذه صورة من الوعي كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).
ومما سنه, رضوان الله عليه, دعاء الندبة وزيارة آل يس بشكل جماعي في كل جمعة وكان من أوائل الحضور في المجلس ولا يتخلف إلا إذا أصابه عارض صحي، فكان يقرأ زيارة آل يس بنفسه ثم يعقب الزيارة بدعاء ( اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن …) و يختم الدعاء بقول
( لبيك يا حسين ) وأعتقد أن اختياره لهذه الزيارة ما هو إلا دليل على قوة ارتباطه بسيده ومولاه الإمام الحجة عجل الله فرجه. حتى كانت آخر جمعة في حياة الفقيد، وكأن الإمام الحسين عليه السلام قد أجابه: هلم إلينا فقد قبلنا تلبيتك, ليجاور نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وسادته الأطهار عليهم السلام في جنان الخلد. وما إن أعلن خبر وفاة هذا العالم الجليل والعابد الزاهد عن الدنيا وزخرفها حتى خيم الحزن والأسى على قلوب المؤمنين وبكاه الصغير والكبير ورثاه الشعراء وأبنته الحوزات العلمية والعلماء ونكس علم من أعلام منطقتنا وهب المؤمنون من مدينة الدمام وخارجها لتشييع جسده الطاهر إلى مقبرة جنة الشهداء ورُفعت صوره على الصدور والرؤوس وصُلي عليه مرتان إكباراً وإجلالاً لمقامه ووري ثراه بالقرب من شهداء حماة الصلاة.
وبهذا فقدت منطقتنا رمزاً من رموزها قل نظيره في العلم والأخلاق. رحم الله شيخنا الراحل رحمة الأبرار وحشره مع محمد وآله الأطهار, نسأل الله له المغفرة وأن ينزل على قبره شآبيب الرحمة وأن يعرف بينه وبين محمد وآل محمد في الجنة وأن لا يحرمنا شفاعته يوم الدين إنه على كل شئ قدير والحمد لله رب العالمين. وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.