أقلام

الكفاءة لا العباءة(٢/١)

جاسم المشرف

لم تعد العباءة بذلك البريق الذي تجفل له القلوب هيبة وإكباراً.

العباءة التي تلازم رجل الدين والعباءة التي يتزيا بها شيوخ السياسة والمال وشيوخ العشائر والقبائل والعباءة التي يتجمل بها من رأى في نفسه الوجاهة والبروز هذه العباءة التي أبهرتنا عقودا من الزمن وتوارثها الآباء عن الأجداد، والتي أعطت لصاحبها -وإن كان وضيعا-امتيازات يُحرم منها مَن لم يعتمرها ولم يصاحبها مهما علا شأنه وارتفعت منزلته، هذه العباءة لم تعد اليوم إلا مبتذلة سعراً واستخداماً؛ لذا قد لا يحتمل الكثير ممن يتزيا بها التصدُّق بربع ثمنها، أو أن يبذل من وقته لمجتمعه بقدر وقت حياكتها ويعدُّ نفسه مهتما بالشأن العام وبمجتمعه، فيا للعجب!.

ولا أعلم حجم التضخم الذي ينتاب بعض مَن لبسها ولكن الذي أنا على يقين به أنَّ بعض هؤلاء يشعر أن الحقيقة تلبّسته إذا ما لبسها، وتجرّد عن الحقيقة كل مَن تجرد عنها، ولدي في ذلك شواهد يطول ذكرها!.

ما قيمة سني عمرك وكفاحك في سبيل العلم والمعرفة والأدب والتفاني في خدمة المجتمع إن كنت ترجو ما عند الناس وأنت مجرد من ذلك الرداء المبهر(العباءة)!.

بئس صفقة مَن جعل من ذلك(البشت) جسرا يمرر به زيفه، ويكمل به نقصه، “وخسرت صفقةُ عبد لم يكن له من حبك نصيبا” يا رب.

وفي منظور الناس بئس الصفقة صفقة رجل علم تجرد منها وما أعظم ضلال من ضحى بكل ما يملك في سبيل مجتمعه وهو خالٍ عنها.

إذا كنت في مجتمع تسوده السذاجة والجهل فاختصر طريق المجد بعباءة تضفي عليك من التوقير والتبجيل والتكريم ما لا يمكن أن تصل إليه ولو وضعت رقبتك على المذبح لأجلهم.

كم من طالب علم مريض معتوه سفيه أهوج شفع له هذا المسمى الذي لم يرعى حقه، وأصغينا لضجيجه وعجيجه وغثاءه، ولأجله أخّرنا مَن حقه التقديم لا لشيء سوى افتقار الأخير للعباءة، عفوا سوى زهده في العباءة.

وكم من فاضل تشهد له المحافل الدولية بالسبق في مجال تخصصه وعلمه لا نعبأ به ولا نعيره بالاً ولم نعترف بكفاءته، وإذا ما عاتبنا مجتمعه وأهل خلته قالوا:أين عباءته؟!، وكأن كفاءته تخللت نسيج عباءته!.

و”المرء مخبوء نحت طي لسانه لا تحت طيلسانه” كما يقول سيد البلغاء والمتكلمين.  أنى لمجتمع أن يتقدم وقد احتفى بما فوق الأكتاف والرؤوس أكثر مما في داخل تلك الرؤوس والصدور، من علم ومعرفة  ومهارة وأدب.

لا أذم العباءة لذاتها ولا أي لابس لها، ولكن أتساءل: حتامَ يبقى الفكر السطحي والرؤية الساذجة هي ما يحكم نسق سلوكنا، ونحن-بحمدلله- في مجتمع يحفل الكفاءات المتميزة في كافة الحقول وبالمثقفين الواعين الراشدين؟.

ولماذا تنكفئ النخب الواعية عن دورها الإصلاحي في تقييم النظرة للإنجازات والكفاءات؟  ومع هذا وذاك أجد عمليات هدم وبناء فكري وعملية تشكل جديد تبشر بخير في المنظومة القيمية لمجتمعنا. وحركة الوعي، فأجيالنا الناهضة أصبحت تميِّز الرجال بعطائهم لا بلباسهم، وبآثارهم لا بصورهم وحجم ظهورهم.

وللموضوع بقية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى